على هامش إلغاء احتفالات فاتح ماي من السنة الجارية احتجاجا على سلوك الحكومة المتمثل في معاكسة مطالب الشغيلة وتوقيف المفاوضات بشأن الملف المطلبي للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية أهدي هذه النافذة لمن يريد محو الذاكرة النضالية للطبقة العاملة.
الداخل مفقود والخارج مولود
خوفا من انهيار سقف طبقة الفوسفاط على رؤوس العمال كما وقع سابقا ، كانت ليلة شاقة وعصيبة ورهيبة تحت الأرض قضاها أبا محمد بين سراديب وأنفاق المنجم رقم 1، يحمل قطع الخشب (البيلة) التي توضع كدعائم لسقف (الحشة) ملبيا نداء وصيحات أحد العمال المختصين (البوزور) تحت امرة الكابران صحبة رفاقه (العطاشة) الخمس، ساعات طويلة خاصمت عقارب الساعة خارج الزمن المخصص لفترة عملهم قضاها فريق العمل دون أكل ولا شراب حتى تمت تسوية المشكل مع تباشير شمس الصباح .
صوت دراجته النارية (فلوندرية الصفراء) اخترق زقاق الحي باكرا معلنا وصول أبا محمد بجسده النحيل المنهك، لم يقوى حتى على إيقاف الدراجة بمكانها قرب المطبخ، فخرائط المياه والأوحال العالقة بهندام العمل الأزرق إلى مستوى البطن تحمل رسائل تبشر بعذاب الليلة الماضية، وقدميه المجمدتين وسط (البوط) المطاطي تؤكدا أن مياه المنجم كانت خصما عنيدا تلك الليلة السوداء، وحده الحزام الجلدي المدبوغ الذي يعصر خاصرتيه كانت تصدر منه طاقة غير مرئية تمنح للجسد المنهك قدرة على الحركة.
هرولت أمي سليمة حاملة دلو الماء الساخن ومستلزمات الاستحمام نحو المرحاض وأسدلت خاميته (ستار من القماش) وشمرت على ساعديها للقيام بواجباتها الاعتيادية، بعدما أسند أبا محمد دراجة (لفلوندرية الصفراء) على الجدار ورمى بقفة لعوين التي تدحرجت من داخلها قنينة الشاي المغلقة بجدع جزرة بمراح البيت وشرع في اقتلاع ملابس العمل التي تنبعث منها روائح التراب والعرق، ملابس زرقاء مختومة باسمOCP شاهدة على تمارة وكرفي الليلة المشئومة المضاءة بكاربون لامبة.
خرج نظيفا طاهرا معطرا بجلبابه الصوفي وعمامته البيضاء التي هندس طيها فوق رأسه كطربوش جندي ينتظر التوشيح بوسام الشرف، وانفرد في ركن مخصص للصلاة ممتطيا صهوة سجادته الصوفية لأداء فواتير دينه، أما أمي سليمة فقد انهمكت في وضع المائدة بعناية في المكان المخصص لأبا محمد، استعدادا لاستقبال مجامع صينية الشاي النحاسية المنقوشة بحرفية الصانع وأطلقت بخورا زكيا بمجمر الدار تحصينا للوالد من عفاريت وشياطين الأنفاق بالمنجم رقم (1).
نحتسي معه كؤوس الشاي الذي أعده بنفسه وهو يرفس بأظافره خبز البطبوط المدهون بالسمن الحار ونحن نحلق في سحنته الجميلة، ونتجرع مرارة وقساوة عمله الشاق بمناجم الفوسفاط التي أزهقت أرواحا عديدة منها من انتشلت ومنها من دفنت تحت الأنقاض، لذلك أطلقوا على (الغار)، بالداخل مفقود والخارج مولود.