الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

فؤاد بوعلي: تنويع العرض التربوي.. تعدد أم انقلاب؟

فؤاد بوعلي: تنويع العرض التربوي.. تعدد أم انقلاب؟

منذ إصدار المذكرة الوزارية 133/14 المؤرخة بـ 26 شتنبر2014، غدا الحديث عن التنويع التربوي عنوان النهوض بالمدرسة المغربية وإصلاح العرض التعليمي. وقد عدت المسالك "الدولية/الفرنسية" للباكالوريا مقدمة للانتقال نحو تعليم متعدد المسارات ومنفتح على الفضاءات الدولية المتنوعة. ويتصور كثيرون أن الانتقال من الأحادية التي طبعت العملية التعليمية منذ الاستقلال إلى “طبق مشكل” من اللغات والمضامين والمقررات هو الحل للانفتاح على المعارف الكونية ودمقرطة العملية التعليمية. والواقع أن المنطق الثاوي وراء هذه العملية، سواء وعى به المسؤولون أم لم ينتبهوا، هو هدم كل المبادئ التي أقامت عليها الدولة الوطنية رؤيتها التربوية والانقلاب على المرتكزات الأربعة للمدرسة المغربية التي أقرتها حكومات الاستقلال كأساس لإستراتيجية التعليم، وإعادة إحياء النمط الاستعماري بتمثلاته القيمية والثقافية.

فقد كرس النظام الاستعماري واقعا تعليميا يقوم على جملة من المرتكزات من بينها:

- الحظوة والمكافأة أي "اعتبار المكان المدرسي منحة للأبناء يحرم منها أولاد الشعب وأبناء الفقراء، ويتمتع بها أبناء الأعيان وبعض من يساعدهم الحظ من ذوي الوسائط والحيثيات" كما قال علال الفاسي.

- غياب شبه تام للغة الهوية في التواصل الدراسي باستثناء المدارس العتيقة، مما جعل العربية محشورة في الخطابات الوجدانية والوعظية.

- التشظي التربوي من خلال فسيفساء تعليمية عرفها مغرب الحماية: فهناك المدارس الفرنسية العربية لأبناء المسلمين، والمدارس الفرنسية العربية لبنات المسلمين، والمدارس الإسرائيلية الخاصة باليهود المغاربة، والمدارس الفرنسية البربرية، والمدارس البدوية، والمدارس الحضرية...الخ.

وتدفعنا المقارنة بهذه الصورة الاستعمارية إلى التساؤل: أليست سياسة التنويع المرجوة مجرد إحياء للسياسة الاستعمارية بكل نتوءاتها وانقلاب على المدرسة الوطنية كما خطط لها زعماء التحرر والاستقلال؟

الجواب يكمن في تتبع مسار المبادئ الأربعة: إن كان مبدأ "مغربة الأطر" الذي أريد منه تعويض الموظفين غير المغاربة في التعليم والإدارة قد حقق جزءا من أهدافه، فإن تعميم التعليم على جميع الأطفال البالغين سن التمدرس مازال متعثرا، في حين عرقل التعريب وأتت الباكالوريا الفرنسية للإجهاز النهائي على كل ملامحه، أما التوحيد الذي آمنت به الحركة الوطنية وحكومات الاستقلال كخيار إستراتيجي للوحدة الوطنية فقد أتى التنويع ليقضي عليه. إذ حاول الحديث التربوي لمشاريع النهضة المغربية تجاوز الواقع الاستعماري الموسوم بالتشظي التعليمي والفكري.. "ومن المعلوم ـمن جهة التربيةـ أن تعدد لغات التعليم في البلد الواحد يضر أضرارا فاحشة بتكوين الأبناء ومستقبل الثقافة في الوطن، وإن واجب الدولة أن تعمل ما في استطاعتها لتكوين لغة الدراسة واحدة في جميع أجزاء القطر وفي كل مراحل التعليم" كما جاء في النقد الذاتي. لأن التعدد التربوي، لغويا ومضمونيا، سينعكس على الهوية الثقافية للذات الوطنية التي ستعرف لا محالة نوعا من التشرذم والتجزئ باعتبارها مدخل الاستعمار الحقيقي. وهم علال والسوسي والوزاني وكل زعماء التحرر الوطني المبدئي هو بعث الوحدة داخل هذه الذات. فالتعدد التربوي معناه فتح المجال للتفكير بطرق متعددة، وترسيخ الاستلاب الثقافي والفكري، وتشويه مقومات الهوية الثقافية والجماعية. مما يعني أن النتائج السلبية لا ترتبط فقط بالتلميذ بل بالهوية الوطنية لأن "أخطر ما يفسد البرامج التعليمية في بلادنا هو هذا التنوع الذي تقصد إليه السياسة قصدا، وهذه المدارس التي تخصص لأبناء الأعيان، أو التي تهيأ لأبناء الفقراء". والمسألة هي أكبر من مجرد منهج تعليمي بل ترتبط إلى حد كبير بالهوية الثقافية للأمة، حيث تهدف السياسة التعليمية الفرنكفونية في صورتها الاستعمارية القديمة/ الجديدة إدخال القيم الثقافية الغربية بيئتنا الثقافية وعالمنا الوجداني. بل الأدهى هو غياب شبه تام للغة الهوية في التواصل الدراسي باستثناء المدارس العتيقة. لذا يقرر أن من الواجب جعل اللغة القومية هي أسلوب التربية وكما روى عن صديقه بلا فريج: "إن العلم إذا أخذته بلغته أخذته ، وإذا أخذته بلغة غيرك أخذك". فكان مدخل التحرر هو الحفاظ على ثوابت الهوية الحضارية للأمة لأن "الأمة التي تتعلم كلها بلغة غير لغتها لا يمكن أن تفكر إلا بفكر أجنبي عنها".  واللغة القومية بالطبع هي العربية "إن لغة التعليم في المغرب يجب أن تكون واحدة ، يجب أن تكون هي اللغة العربية، فإذا أخذت لغتنا مركزها من كل المدارس لم يعد علينا بأس بعد ذلك إذا أضفنا لها لغة أو لغات حية تفتح لنا آفاق الاتصال بالعالم الغربي الذي نتطلع إلى الاقتباس من تجاربه وفلسفاته".

إن فكرة التنويع التربوي، بالرغم من المساحيق التي تجمل وتعرض بها إعلاميا وتربويا، هي انقلاب حقيقي على مرتكزات المدرسة والدولة الوطنيتين، واستعادة فجة  للهيمنة الثقافية الفرنسية كما تمثلتها المدرسة الاستعمارية. ومقاومتها استكمال لمشروع التحرر الوطني.