هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني.
ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا.
- منية بنت ميمون الدكالي: المرأة المتصوفة
تقدم منية/ منينة بنت ميمون الدكالي، نموذجا للمرأة المغربية المتصوفة، الزاهدة، الناسكة، المتعبدة في القرن السادس الهجري.. لم يكن التصوف بالنسبة لمنية بنت ميمون الدكالي «المشهورة عند العامة بميمونة تاگنوت...»، يشير العباس بن إبراهيم، ترفا دثرت به مسار حياتها، ولكنه كان بالنسبة إليها، كما قال الشيخ سيدي محمد مصطفى ماء العينين "وجدان الفرح في فؤاد عند إتيان الترح، أي الهم...".
فمنية بنت ميمون الدكالي، المكناسية الأصل، ونزيلة الجانب الشرقي من مراكش، حسب صاحب الإعلام، لم تكن ممن «صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم...» يقول مؤلف مبصر المتشوف على منتخب التصوف، بل كانت من طينة من «يجاهد مع النفس والطبيعة، ليرتفع الهوى والشهوات والبدعة، ويتمكن في القلوب حب العمل بالكتاب والسنة...» يضيف مؤلف مبصر التشوف .
جهاد منية لنفسها ورغباتها ترجمه ابن الزيات في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف" قائلا: "زرتها ورأيتها عجوزا قد اسودت من الاجتهاد ولصق جلدها بعظمها".
وما أبقى الهوى والشوق مني/ سوى نفس تردد في خيال
خفيت عن المنية أن تراني/ كأن الروح مني في مجال
فتاگنوت «التي لا تبين في كلامها...»، حسب الأستاذ أحمد التوفيق، هي من ضمن الصالحين والصالحات الذين حفل بهم كتاب "التشوف إلى رجال التصوف" «وإن كان مشتملا على أضراب من أفاضل العلماء والفقهاء والعباد والزهاد والورعين وغير ذلك من ضروب أهل الفضل» يقول ابن الزيات التادلي .
فابنة ميمون الدكالي التي يوافق تاريخ وفاتها تاريخ وفاة الخليفة يعقوب المنصور الموحدي سنة 595ھ، كانت كثيرة الكشف بخبر المغيبات وتظهر على يدها كرامات، وهو ما يستشف من كلامها لأحمد بن إبراهيم الأزدي البسطي «قيل لي: يتفق لك شيء، وأنا أظن أنه الموت، فقلت لها: لعله غير ذلك، فلما عادت إلى مراكش مرضت مرضها الذي ماتت فيه »، يقول التادلي .
وبغض النظر عما كان لمنية من كرامات، مثل قطع المسافات الطويلة في المدة القليلة، كما يشير إلى ذلك ابن الزيات، تبقى زيارتها لرباط شاكر ببلاد أحمر في أواخر القرن السادس الهجري، «حيث كان اجتماع صالحي المغرب ولاسيما في شهر رمضان من أجل ختم القرآن، وحيث كانت منابر الوعظ من أجل نشر الإسلام وتثبيته في أوساط المصامدة وغيرهم...»، يقول الأستاذ أحمد التوفيق، وثيقة تاريخية تؤكد على قدسية المكان (رباط شاكر) وحجم ونوعية الزوار .
لم يكن حضور منية بنت ميمون الدكالي لرباط شاكر، حضورا من أجل تأثيث فضاء دعت له جماعة ممن «جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم ودفنوا كثير مناقبهم»، يشير صاحب "مبصر التشوف"، بل كان حضورا من أجل معانقة جميع المغاربة من «أفاضل العلماء والفقهاء والعباد والزهاد والورعين...» يقول التادلي .
لم يفت منية وهي تتحدث إلى أحد محاوريها أن تقول له: «حضر هذا العام بهذا الرباط ألف امرأة من الأولياء» يشير ابن الزيات، وإذا كان الأمر كذلك، فكم كان عدد من حضروا من الأولياء؟
في سنة 595ھ، تغادر منية/ منينة الحياة، ويحتضن رمس خارج باب الدباغ بمراكش الحمراء، جسدها الذي «اسود من الإجهاد (في حب الله) حتى لصق جلدها بعظمها»، كما أشار إلى ذلك العباس بن إبراهيم، وبقي اسمها من بين العابدات الزاهدات المتصوفات المشهورات اللواتي حفل بهن تاريخ المغرب.