شهد العالم بداية من منتصف القرن العشرين تحولا من مجتمع صناعي إلى مجتمع قائم على الثورة التقنية، فصار مجتمع معرفة ومعلومات، وقد كان الإعلام في صلب هذه المتغيرات، وخاصة بعد اندماج الحاسوب بالمعلومات والاتصال وظهور الإنترنيت، الشيء الذي حول العالم إلى تدفق هائل للأخبار والمعلومات، وأثر بشكل كبير على الوسائل والرسائل الإعلامية على السواء، وحول الإعلام من إعلام خطي الاتجاه إلى إعلام أفقي، ألغيت فيه الحدود الجغرافية، والحدود بين المرسل والمتلقي، وتغيرت فيه طبيعة الرسائل والمؤسسات الإعلامية، وأصبحت الكرة الأرضية قرية صغيرة كما قال ماكلوهان. هذا التغير التقني والإعلامي جعل الأفراد عرضة لتدفق لا متناه من المعلومات والأخبار، وأصبح يشكل الكثير من المخاطر على المتلقين، الذين يجدون أنفسهم عرضة لسيل من الشائعات والأخبار الكاذبة، والمعلومات التي تكرس العنف والكراهية والإرهاب، وخاصة التي تستهدف الأطفال.
ونظرا لأهمية الإعلام في نشر العلم والمعرفة وبناء الذات، وتعارض الحق فيه مع المنع والحرمان، فقد أصبح اعتماد التربية الإعلامية واجبا أساسيا للتوفيق بين هذا الحق وما يمكن أن يعترضه من مخاطر، وذلك لمنح المتلقين وعيا إعلاميا يؤهلهم للتعامل الايجابي مع وسائل الإعلام ومختلف رسائلها، تعاملا نقديا انتقائيا يمكنهم فهم رسائل وسائل الإعلام وإدراك الغايات والأهداف منها، حتى لا يقع ضحية لما تسعى إليه من تضليل وتدجين وغسل للعقول. وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بتنشئة إعلامية تحمي المتلقين أطفالا وشبانا من مخاطر هذا التدفق المعلوماتي اللامحدود.
الثورة المعلوماتية والحاجة إلى التربية الإعلامية
عرف العالم ابتداء من منتصف القرن الماضي تحولا عميقا، بانتقاله إلى مجتمع ما بعد صناعي، أساسه ثورة تقنية دقيقة تعتمد استثمار المعلومات وتداولها، وعمادها خدمات الاتصال والتواصل، وهو ما أطلق عليه لاحقا مجتمع المعرفة أو مجتمع المعلومات أو مجتمع الإعلام، حيث التدفق المتسارع واللانهائي للمعلومات والمعارف والأخبار، وقد انعكس هذا التطور على كل مناحي الحياة بما فيها البنية الفكرية لإنسان اليوم، الذي عرف الصورة قبل أن يعرف الكتابة، والذي وجد نفسه منخرطا في نظام تواصلي لتبادل المعلومات كما يقول فيليب بروتون، خاصة أنه أصبح يعيش في عالم يعد فضاء لنشاط إعلامي غير متوقف، يضمن لكل فرد الحصول على المعلومات والتعرض لها.
إن هذا الانتشار الواسع للإعلام والتدفق اللامتناهي للمعلومات، يطرح الكثير من الإشكاليات المرتبطة بالحقوق والحريات، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالأطفال والشباب، صحيح أن الثورة الرقمية وما توفره من معلومات وتكنولوجيا حديثة تساهم في بناء شخصيته وتنمية معارفه وتوسیع إدراكه وتطوير مهاراته، لكنها في الوقت نفسه تهدده بمخاطر لا حصر لها، مثل العنف والتطرف والإباحية والوقوع فريسة للإيديولوجيات الهدامة، والانسلاخ عن القيم الدينية والوطنية. فكيف نمكن الطفل والشباب عموما من فوائد الثورة المعلوماتية، وإحدى أهم آلياتها المتمثلة في وسائل الإعلام، مع الحد في الوقت نفسه من مخاطرها وآثارها السلبية، لقد انتبهت الكثير من الدول المتقدمة إلى هذه المعضلة، ونظراً لأن الحق يسمو على المنع، فقد سارعت إلى اعتماد التربية الإعلامية للملاءمة بين استعمال وسائل الإعلام والتعرض لمضامينها، وبين الحد مما تشكله على النشر من انعكاسات ضارة وفاسدة. فما المقصور بالتربية الإعلامية؟ وما أهميتها وأهدافها؟ وما الأساليب والاستراتيجيات التي يجب على الأطفال والشباب التحكم فيها، للتعامل الايجابي مع المضامين والرسائل الإعلامية؟
1 ـ التربية الإعلامية، محاولة بناء المفهوم
يتكون مصطلح التربية الإعلامية من عنصرين أساسين، التربية والإعلام، فالتربية”Education” تحيل في عمقها على التعليم والتعلم، واكتساب المهارات والكفايات التي تساعد الإنسان في بناء شخصيته، واتخاذ قرارات وأحكام لمواجهة ما يعترضه من مواقف، أما "الإعلامية " فإنها تخصيص لنوع التربية المقصود، بمعنى أنها كل تعليم وتعلم وتكوين يرتبط بما هو إعلامي ومعلوماتي.
وقد أثار مفهوم التربية الإعلامية منذ ظهوره الكثير من الإشكالات، ومنها إشكال التسمية حيث تعتمد الدول الأوربية مصطلحين مترادفين هما التعليم الإعلامي والتربية الإعلامية (Media éducation)، في حين تعتمد كل من كندا وأمريكا واستراليا مصطلحات أخرى مثل محو الأمية الإعلامية (Media literacy)، أو المعرفة الإعلامية. أما في الدول العربية فالمصطلح الأكثر شيوعا واستعمالا فهما التربية الإعلامية أو الثقافة الإعلامية. كما تجدر الإشارة إلى أنه، وبعد ظهور وسائل الإعلام الجديد، طرأت تغييرات على المفهوم، حيث تم دمج المصطلحين السابقين معا لتظهر تسميات جديدة مثل »Media literacy و "Media and information literacy" و New Media » literacy education » وهي كلها تسميات تمتحي من حقول متداخلة وهي الإعلام والمعلوميات والتربية.
وقد عرفت اليونسكو التربية الإعلامية خلال ملتقى خبرائها في باريس سنة1979 ، بأنها "كل طرق الدراسة والتعلم والتدريس، لكل المستويات وفي كل الظروف، لاستخدام الإعلام وتقويمه ممارسةً وتقنيات ومضامين، مع إدراك لأهمية وسائله الإبداعية وحس التعامل معها"، أما إعلان جرانوالد (Grunwald) لسنة 1982 فاعتبر أنها تؤسس لـ " فهم نقدي لظاهرة الاتصال ووسائله لدى الأفراد، باعتبار أن التربية الإعلامية تعليم للمعارف والمهارات والسلوكيات التي تدعم وتشجع نمو الوعي النقدي، وبالتالي رفع كفاءة مستخدمي وسائل الإعلام".
أما معهد أسبن( Aspen Institute) فعرفها بأنها "القدرة على الوصول بشكل استراتيجي إلى الرسائل الإعلامية، وتحليلها ونقلها بصيغ عديدة ومتنوعة. في حین يعرفها مركز التربية الإعلامية بالولايات المتحدة الأمريكية بأنها "المقدرة على تفسير وبناء المعنى الشخصي من الرسائل الإعلامية، والمقدرة على الاختيار وتوجيه الأسئلة والوعي بما يجري حول الفرد، بدلا من أن يكون سلبيا ومعرضا للاختراق".
وإذا كانت المنظمات والمؤسسات والمعاهد قد تعمقت في تعاريفها للتربية الإعلامية، وركزت على ضرورة استحضار كل الجوانب، فإن بعض المختصين قد لخصوا تعاريفهم بشكل مبسط وأكثر وضوحًا، مثل ما اقترح Paul Messaris حين أكد أنها وبكل بساطة هي "معرفة كيف تعمل وسائل الإعلام في المجتمع". و Mc Brian الذي قال إنها "تعليم الطلاب كيفية تقييم الرسالة الإعلامية التي تحيط بهم، وتزويدهم بالإمكانات لاتخاذ خيارات مسؤولة عما يسمعونه ويرونه" ،في حين اعتبرها ليفنيستون " القدرة على الوصول إلى المعلومات وتحليلها وتقييمها".
يبدو ومن خلال هذه التعاريف، سواء المؤسساتية أو التي أطلقها باحثون ومختصون، أنها ركزت جميعها على طبيعة التربية الإعلامية، باعتبارها تعليم وتعلم وتدريس واكتساب مهارة، تمكن من الفهم الناقد والعميق للإعلام وآليات اشتغاله تقنيات ومضامين، وبالتالي فهم الرسائل الإعلامية وتحليلها وكشف خلفياتها والغايات منها، وهذا لن يتأتى إلا باكتساب ثقافة إعلامية، تفهم الإعلام ووسائله أولا، وتتعرف على مقاصده السياسية والاجتماعية والتجارية والثقافية ثانيا، وهو ما أجملهMessaris” " بقوله إن التربية الإعلامية هي معرفة كيف تعمل وسائل الإعلام، بمعنى تسليح الأطفال والشباب والمتلقي عموما، برصيد استراتيجي يساعده على الفهم الواعي والناقد للرسائل الإعلامية، والإفلات مما تنصبه له من شراك للتأثير عليه والإيقاع به.
أعلن عن ميلاد التربية الإعلامية خلال 1982 بإعلان جرانوالد” Grunwald declaration” ، حيث تم التأكيد على أنها تعليم بشأن الإعلام وتكنولوجياته الحديثة، وليس تعليما عن طريق الإعلام، وفي سنة 1984 أصدرت اليونسكو كتابا بعنوان "التربية الإعلامية"، كأول إصدار في هذا المجال، ضمنته دعوة صريحة لمحو الأمية الإعلامية والمعلوماتية، وامتلاك منظومة قواعد التواصل والمشاركة الإيجابية مع وسائل الإعلام المتعددة، وهكذا بدأ مفهوم التربية الإعلامية يتحدد باعتبارها "عملية ناقدة تساعد الأفراد على تكوين الوعي النقدي حول الرسائل الإعلامية وفهم مضامينها وغاياتها ودورها في بناء وجهات النظر والآراء حول الواقع".
خلال التسعينيات، وبعد ظهور الإنترنيت والإعلام الجديد، وبعد التحول الذي انعكس على وسائل الإعلام بانتقال الجماهير إلى منتجين للرسائل الإعلامية، تغير مفهوم التربية الإعلامية أو على الأقل تم توسيعه ليشمل كذلك إنتاج الرسائل الإعلامية إضافة الى تلقيها وتحليلها.
وهكذا انطلق مشروع التربية الإعلامية في الكثير من الدول مثل المكسيك (1993)، والدنمارك سنة 1995، لتطلق اليونسكو بتعاون مع منظمة المينيتور A.Minetor »" واللجنة الأوربية مشروع تكوين وإعداد المعلمين لتدريس الإعلام لمساعدة الشباب على فهم وتحليل ونقد الرسائل الإعلامية.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين، انتشر مفهوم التربية الإعلامية بشکل واسع، وانخرطت في هذا المشروع جل الدول مثل كوريا وهونغ كونغ. وتأكيدا لأهمية الموضوع أصدرت اليونسكو مرة أخرى كتابا حول التربية الإعلامية والمعلوماتية مركزة فيه على المفهوم والأهداف، ومؤكدة أن التربية الإعلامية تشمل تطوير الإدراك النقدي والمشاركة النشطة لوسائل الإعلام وتكنولوجياته الحديثة.
نشير في الأخير إلى أن مفهوم التربية الإعلامية يتقاطع مع عدة مفاهيم أخرى مثل الإعلام المدرسي والإعلام التربوي والإعلام التعليمي، فالإعلام المدرسي يهتم بنشر الأنشطة المدرسية مع تعليم الأطفال بعض فنون الإعلام، أما الإعلام التربوي والإعلام التعليمي فهما مفهومان جد متقاربين، يقصد بهما استخدام وسائل الإعلام في التربية والتعليم مع فارق بسيط، يتمثل في كون الإعلام التربوي قد يتعدى حدود المدرسة، فيهتم بنقل القيم والأفكار والقناعات والنظم والنظريات، في حين يقتصر الإعلام التعليمي على تقديم البرامج التعليمية ودعم العمل الذي تقوم به المؤسسات التعليمية.