هذه سلسلة من الكتابات التاريخية بصيغة المؤنث لمغربيات صنعن التاريخ، وبصمن مشوارهن من خلال عملية البحث والتنقيب وقراءة الوثائق التاريخية عبر أغلب مجالات الجغرافيا، وإعادة تشكيلها بقلم الأستاذ الباحث مصطفى حمزة، الذي أغنى الخزانة المغربية بإصداراته المهمة، والتي تناول فيها مسار شخصيات كان لها الحضور القوي على مستوى التاريخ الجهوي والوطني.
ولتقريب القراء من هذا النبش والبحث المضني، اختارت "أنفاس بريس" عينة من النساء المغربيات (25 شخصية نسائية) اللواتي سطرن ملاحم وبطولات وتبوؤهن لمراكز القرار والتأثير فيها فقهيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وعسكريا.
- العريفة بنت ابن نجوا: امرأة من زمن المرينيين
تقدم العريفة المرينية، نموذجا للتكامل ما بين المرأة والرجل في المساهمة في بناء صرح الدول، فقد استطاعت بما تراكم لديها من معرفة وخبرة وحنكة بالحياة الملوكية أيام المرينيين، أن تساهم إلى جانب قاسم الزرهوني في «زخرفة أيام السعديين عند دخولهم إلى فاس» حسب مؤلف تاريخ الدولة السعدية.
لم يخطر ببال العريفة، وهي التي تربت في كنف بني مرين بمدينة فاس، وخبرت الحياة اليومية داخل القصور والبيوتات، أنها ستلقن «السعديين مظاهر الحياة الملوكية لاسيما داخل القصور والبيوتات»، كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله، وأنها ستنجو من بطش محمد الشيخ، الذي تحكم أثناء دخلته الثانية «في أهل فاس وأدى حسائفه وقهر أهلها ونفى أكثرهم للجبال والمشرق وقتل الإمام الزقاق...»، يقول مؤلف تاريخ الدولة السعدية.
فقد وجد السعديون بنت ابن نجوا في الدار وأبقوها على ما هي عليه، فوجدوها أكبر حجة في الدار.
فأرتهم كيف يصنعون الأطعمة، وكيف يطبخون، وكيف يدفع الطعام في أوقاته وفصوله، ففصل الشتاء بفاكهته وأوانيه، وفصل الربيع بألبانه وأدامه، وفصل الصيف بفاكهته الخضراء، وفصل الخريف كذلك، وتقديم الطعام وقت الإفطار بما يليق من الشيء وغيره، وكذا الغذاء بترتيبه، والعشاء مثل ذلك بكفاية على القوم المتعلقين بإقامة الدار إلى غير ذلك... حسب المؤرخ المجهول.
لم يفت العريفة وهي تلقن السعديين، أصول أنماط غذائية متشبعة بنظم حضرية، متحت من ثقافات متعددة، تعكس امتداد المغرب في جغرافية العالم، وحتمية انفتاحه وتفتحه على الثقافات العالمية، بحكم الجغرافيا والتاريخ، أن تلقن السعديين محاسن ما يديم المعروف، ويبقي على العشرة، «فأرتهم كيف يلبسون نساءهم الملابس الحسان، والتنوير بالطيب والزينة والزي العجيب، والفروش من الحرير والرقم في المخاد والأردية، ووقد الشمع إلى غير ذلك...»، يضيف نفس المؤرخ.
وإذا كانت العريفة التي كانت لبني مرين ودخلت بيد الشرفاء، «قد زينت لهم الدار وقامت بمهمتها فيها»، فإن قاسم الزرهوني وزير بني مرين، «زين ملكهم وأبهج سلطانهم بما قدمه لهم من خدمات، فقد زين لباسهم، وأراهم كيف يلبسون الثياب، وكيف يشدون الشدود والعمائم، وكيف يركبوا المراكب بزي عجيب، وكيف يشهرون السلاح بالذهب والفضة والوشي، وكيف يباشرون الأمور مع أعيان القوم، وكيف ينعقد الديوان ومن يختص به من العلماء والأدباء والكتاب والحفظة والقواد، وكيف يكون قعودهم ومنازلهم في المجلس، وكيف يكون وقت الطعام مع تقديمه إلى القوم، وكيف يعط الأمر والنهي إلى غير ذلك، وأطلعهم على جبايات المغرب ودواوين القبائل وما يأتي من جباية زكواتهم وأعشارهم، وما عليهم من الوظائف ورواتب الجيش، إلى أن ضبط ملكهم وزينه وشرفهم، وأعلى مراتبهم، وغلظ حجابهم وكثرت صحبتهم...»، يقول الفاسي حسب ليڤيبرو فنصال.
وبذلك تكون أيام السعديين الذين كانوا قبل دخولهم لمدينة فاس، «يلبسون الأردية والأكسيا ويركبون الأناجيا ويبدؤون في جوابهم بويلهم ميا...»، حسب سيدي علي بن حرزوز، ومتشبعون بثقافة غذائية بدوية، إلى جانب ضعف درايتهم بتدبير شؤون الحكم، قد تزخرفت على يد العريفة، والوزير قاسم الزرهوني، مما يترجم حقيقة ما يمكن أن يقدمه التكامل ما بين الرجل والمرأة، في بناء المجتمعات وتحديثها.