الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
فن وثقافة

«مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية: الدلالات والأبعاد والآفاق»… قراءة أكاديمية تؤسس لسردية وطنية وازنة

«مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية: الدلالات والأبعاد والآفاق»… قراءة أكاديمية تؤسس لسردية وطنية وازنة غلاف الكتاب
يقول الفيلسوف السياسي الألماني يورغن هابرماس:
«إنّ الشرعية الحقيقية لأيّ حلٍّ سياسي لا تُستمدّ من القهر ولا من فرض الوقائع بالقوة، بل من قدرة ذلك الحل على إدماج الفاعلين المختلفين داخل أفقٍ تواصليٍّ عقلاني، يجعل من التوافق الممكن أساسًا للاستقرار، ومن الاعتراف المتبادل شرطًا للاستمرار، ومن المستقبل المشترك غايةً تتقدّم على جراح الماضي، مهما كانت عميقة ومتجذّرة».
 
في سياق تخليد الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء ، يأتي هذا الكتاب الجماعي في صيغته العربية والفرنسية ليؤكّد أن قضية الصحراء المغربية لم تعد موضوعًا للانفعال السياسي أو السجال الظرفي، بل غدت مجالًا معرفيًا قائمًا بذاته، تُقارب فيه المبادرات والحلول بمنطق التحليل الهادئ، والاشتغال الأكاديمي الرصين، واستحضار التحولات الإقليمية والدولية التي باتت تفرض مقاربات مركّبة تتجاوز الاختزال والتبسيط.
 
الكتاب، من حيث بنيته ومضمونه، لا يكتفي بعرض مبادرة الحكم الذاتي بوصفها مقترحًا سياسيًا، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يعمل على تفكيك خلفياتها الدستورية والقانونية، واستجلاء أبعادها التنموية، وقراءة رهاناتها الجيوسياسية، واستشراف آفاقها المستقبلية في ضوء التحولات التي يعرفها النظام الدولي، خاصة في ما يتصل بمفاهيم السيادة، والحكم المحلي، وتدبير التنوّع المجالي والثقافي.
 
وتكمن أهمية هذا العمل في كونه صادرًا عن نخبة من الباحثين والأكاديميين، الذين تعاملوا مع الموضوع بمنهج علمي صارم، بعيد عن الخطاب الدعائي أو اللغة الانتصارية الجوفاء. فالكتاب لا يخاطب الداخل فقط، بل يوجّه رسائل معرفية دقيقة إلى الخارج، مستفيدًا من الثنائية اللغوية، العربية والفرنسية، بما يتيح له اختراق دوائر أكاديمية وإعلامية أوسع، ويمنحه قابلية التداول داخل الفضاء الفرنكفوني، حيث ما تزال كثير من القراءات المغلوطة حول القضية رائجة ومؤثرة.
 
ضمن هذا السياق، تبرز مشاركة الدكتور رشيد مقتدر، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بعين الشق – جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، بوصفها إضافة نوعية داخل هذا المشروع الجماعي. فمقاربته تنهل من عمق التخصص، وتستند إلى رصيد معرفي واسع، يجعل من النص مساهمة تحليلية دقيقة تشتغل على المفاهيم قبل المواقف، وعلى البُنى قبل الشعارات.
 
مساهمة الدكتور رشيد مقتدر لا تنفصل عن مساره الأكاديمي المعروف بالجمع بين الصرامة العلمية والانفتاح على المدارس الفكرية الحديثة في تحليل الدولة، والحكامة، والشرعية الدستورية. ومن هذا المنطلق، تأتي قراءته لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها آلية دستورية متقدمة، قادرة على استيعاب الخصوصيات المحلية ضمن الإطار السيادي للدولة، دون السقوط في منطق التفكيك أو المساس بوحدة الكيان السياسي.
 
اللافت في الكتاب، عمومًا، أنه يعيد الاعتبار للزمن الطويل في فهم النزاعات، فلا يتعامل مع قضية الصحراء كحادث معزول، بل يربطها بسياقها التاريخي، وبمسار بناء الدولة الوطنية، وبالتحولات التي عرفها مفهوم الحكم الترابي في المغرب، من المركزية الصارمة إلى الجهوية المتقدمة، ثم إلى التفكير في صيغ أكثر مرونة لتدبير المجال.
 
كما أنّ الكتاب ينجح في الربط بين البعد القانوني والبعد التنموي، مبرزًا أن الحكم الذاتي ليس فقط ترتيبًا مؤسساتيًا، بل هو أيضًا رهان تنموي، يستهدف تحويل الأقاليم الجنوبية إلى فضاء منتج، ومجال جذب استثماري، ونقطة وصل بين المغرب وعمقه الإفريقي. وهو رهان لا يمكن فصله عن الاستقرار، ولا عن تمكين الساكنة المحلية من آليات المشاركة الفعلية في تدبير شؤونها.
 
وفي هذا الإطار، تكتسب النسخة الفرنسية من الكتاب أهمية خاصة، لأنها تخاطب جمهورًا دوليًا اعتاد قراءة القضية من زوايا جاهزة، غالبًا ما تتأثر بإرث الحرب الباردة، أو بخطابات حقوقية مبتورة عن سياقها السياسي والتنموي. فالكتاب، بلغته الهادئة وحججه المحكمة، يقدّم مادة قابلة للنقاش داخل الجامعات ومراكز البحث، بعيدًا عن منطق الاستقطاب.
 
إنّ «مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية: الدلالات والأبعاد والآفاق» ليس كتابًا مناسباتيًا، رغم صدوره في لحظة رمزية، بل هو عمل تأسيسي، يراكم المعرفة، ويؤسّس لأدبيات جديدة في تناول القضية الوطنية الأولى، أدبيات تُحسن الإصغاء للعالم، دون أن تفرّط في الثوابت، وتراهن على العقل، دون أن تنسى الذاكرة.
 
وبمشاركة أسماء أكاديمية وازنة، من بينها الدكتور رشيد مقتدر، يبعث هذا الكتاب رسالة واضحة مفادها أن الدفاع عن القضايا الكبرى لم يعد شأن الخطابة وحدها، بل صار معركة معرفة، وحجاج علمي، وقدرة على تحويل المشروع الوطني إلى خطاب مفهوم، قابل للتداول، ومؤسّس على الشرعية والواقعية في آن واحد.