لم يعد السؤال اليوم مطروحاً حول ما إذا كان المشهد التنموي والسياسي في المغرب يعاني اختلالات، بل أصبح السؤال الحقيقي: إلى أي حدّ يمكن الاستمرار في إدارة هذه الاختلالات دون المساس بجوهر الدولة وهيبتها ومصداقيتها؟
لقد عرفت البلاد، على مدى سنوات، شكلاً هادئاً لكنه عميق من تغييب الكفاءات، ليس عبر الإقصاء المباشر، بل عبر ما يمكن تسميته بسياسات التجميد الناعم. تم فيها تحويل العقول القادرة على التفكير والتخطيط إلى مجرد حضور رمزي أو هامشي، بينما فُتحت الواجهات لأشخاص لا يملكون مشروعاً ولا رؤية، لكنهم يملكون قابلية الاصطفاف.
هذا النموذج لا يعبّر فقط عن خلل في تدبير الموارد البشرية الوطنية، بل عن تحوّل خطير في فلسفة العمل العمومي نفسها: من منطق الكفاءة إلى منطق الولاء.
ومع مرور الوقت، لم يبق هذا الخلل محصوراً داخل المكاتب المغلقة أو البيروقراطية الصامتة، بل خرج إلى الفضاء العام، ليمسّ في العمق مجالات يُفترض أن تبقى بعيدة عن الحسابات الضيقة: التنمية، الثقافة، السياحة، البحث العلمي، والإنتاج الفكري.
فالمهرجانات تحوّلت، في كثير من الأحيان، من منصات للتعبير الحر إلى فضاءات للبهرجة و التموقع السياسي، والندوات الفكرية من ساحات للنقاش الرصين إلى منصات اصطفاف رمزي، والمحاضرات العلمية من أدوات لبناء الفكر إلى أدوات لإعادة إنتاج خطاب موجَّه.
وهنا يكمن أحد أخطر اختلالات المرحلة: حين يتم تسييس الفكر، وتوجيه الثقافة، واختزال التنمية في وظيفة دعائية.
غير أن ما يعطي المشهد الحالي بعداً مختلفاً هو بروز ملامح مرحلة جديدة يمكن وصفها بمرحلة “الغربلة”. وهي ليست مجرد إجراء تقني أو إداري، بل تعبير عن إدراك متزايد داخل الدولة بخطورة التراكمات السابقة. فتنقية المشهد من المتسللين إلى المجالات الحساسة، ومن محترفي الأقنعة، ومن أولئك الذين جعلوا من القطاعات الحيوية منصات لتكريس نفوذهم، لم يعد خياراً مؤجلاً.
إن هذه اللحظة، رغم حساسيتها، تحمل في داخلها فرصة تاريخية نادرة: فرصة القطع مع منطق الواجهة، والعودة إلى منطق الجوهر.
لكن، ورغم أهمية ما يجري، يبقى السؤال المركزي قائماً:
هل ستكون الغربلة بداية لتحرير فعلي للكفاءات؟
أم ستظل مجرد إعادة ترتيب داخل نفس البنية القديمة؟
هل ستكون الغربلة بداية لتحرير فعلي للكفاءات؟
أم ستظل مجرد إعادة ترتيب داخل نفس البنية القديمة؟
فالدولة القوية لا تُقاس بعدد من تُقصيهم، بل بعدد من تُعيد الاعتبار إليهم. ولا تُبنى السيادة الحقيقية بإبعاد الضعفاء فقط، بل بفتح المجال أمام الأقوياء فكراً، لا موقعاً.
إن أخطر ما يمكن أن يصيب مشروع التنمية ليس فشله، بل تحوّله إلى أداة في يد السياسة، وأخطر ما يمكن أن يصيب السياسة ليس ضعفها، بل توظيفها للثقافة والعلم والسياحة والتنمية كوسائل للشرعنة لا كغايات في ذاتها.
المغرب، بتاريخـه وموقعه ورمزيته، لا يحتمل هذا الترف. إنه بلد تشكّل على التوازن بين السلطة والمعرفة، بين الهوية والتعدد، وبين الحرية والمسؤولية.
وإذا كانت المرحلة تفرض اليوم جرأة في القرار، فإنها تفرض أيضاً شجاعة في المصالحة مع العقول الحقيقية لهذا الوطن. لأن الأمم التي تخاف من نخبها، لا تصنع مستقبلاً، بل تؤجل سقوطاً.
ليس المطلوب هو معاداة السياسة، بل تحرير التنمية منها.
ليس المطلوب هو تحييد الثقافة، بل حمايتها.
ليس المطلوب هو إسكات الأصوات، بل الإصغاء لها.
ليس المطلوب هو تحييد الثقافة، بل حمايتها.
ليس المطلوب هو إسكات الأصوات، بل الإصغاء لها.
فحين تتحرر التنمية من الاصطفاف…
تتحرر الدولة من هشاشتها.
تتحرر الدولة من هشاشتها.