Tuesday 21 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: إعلان مراكش للأقليات الدينية … مغربية المنشأ وكونية الأفق

عبد الرفيع حمضي: إعلان مراكش للأقليات الدينية … مغربية المنشأ وكونية الأفق عبد الرفيع حمضي
إعلان مراكش للأقليات الدينية … مغربية
المنشأ وكونية الأفق
 
احتضنت مدينة الرباط في نهاية الأسبوع الماضي ورشة فكرية مصغّرة جمعت باحثين ومهتمين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، خُصصت لمناقشة سبل تنزيل وتفعيل إعلان مراكش لحماية حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي.
ورغم الطابع الهادئ لهذه الورشة، فقد أعادت إلى الواجهة أهمية هذا الإعلان الذي تم اعتماده في بداية سنة 2016 في مؤتمرٍ دولي نظّمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية و منتدى أبوظبي للسِّلم، برعاية سامية من جلالة الملك محمد السادس.
حيث جاء هذا المؤتمر ليؤكد أن الإسلام، في جوهره، دينٌ يكرّم الإنسان ويحمي حقوقه بغض النظر عن معتقده، وأن قيم العدل والمواطنة والعيش المشترك متأصلة في تراثه الفقهي والروحي، .
وقد شارك في المؤتمر أكثر من ثلاثمائة قائد ديني ومفكر وباحث ومسؤول سياسي، مما جعله محطةً فارقة في مسار تجديد الخطاب الديني وربطه بمفاهيم الكرامة والحرية والمساواة.
من الناحية المعرفية، يمثّل إعلان مراكش أكثر من مجرّد وثيقة دينية او حقوقية؛ إنه تحوّلٌ فكري داخل الوعي الإسلامي المعاصر.
فهو يطرح سؤال الإنسان قبل سؤال الانتماء، ويستعيد العلاقة المنسية بين الإيمان والعقل، بين الدين والمواطنة، بين النصّ والكرامة.
الكرامة في هذا الإعلان ليست مبدأً قانونيًا فحسب، بل أصلٌ روحي وأخلاقي .
فالدين يرى ان الإنسان كائنًا ذا روحٍ وحريةٍ ومسؤولية، وهذه الثلاثية تشكّل جوهر الفلسفة الحقوقية الحديثة.
بمعنى ، ما يسميه القانون الدولي “حقوقًا غير قابلة للتصرّف”، يراها الفكر الإسلامي “حقوقًا مكرّمة بالخلق والإرادة الإلهية”.
هنا تتقاطع الفلسفة الوجودية التي تجعل الإنسان غايةً في ذاته مع الفكر المقاصدي الذي يجعل الكرامة مقصدًا للشريعة.
فلا معنى للعبادة دون حرية، ولا قيمة للعقيدة دون اعترافٍ بالاختلاف، لأن الحرية ليست ضدّ الإيمان بل شرطه الأعمق.
وهذا بالضبط ما يجعل إعلان مراكش وثيقة تتجاوز الظرف السياسي لتصبح بيانًا في فلسفة العيش المشترك. «إن حماية الأقليات ليست منّة من الأغلبية، بل واجب ديني وأخلاقي، لأن الناس شركاء في الوطن والكرامة»( العلامة عبد الله بن بية)
ما يلفت الانتباه أن إعلان مراكش حظي بصدى واسع خارج العالم الإسلامي .ففي ليلة صدوره نفسها، نوّه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بهذه المبادرة، معتبرًا إياها “خطوة شجاعة من داخل العالم الإسلامي للدفاع عن حرية المعتقد”.
كما أشاد قداسة البابا فرنسيس بمضامين الإعلان، واستشهدت به شخصيات دينية يهودية ومسيحية في لقاءاتٍ متعددة، واعتُبر وثيقة تأسيسية للحوار بين الأديان.
وقد تناولته مراكز أبحاث غربية بوصفه أول مبادرة تصدر من داخل العالم الإسلامي تؤكد مبدأ “المواطنة المتساوية” بوصفها امتدادًا لروح الإسلام التي أقرت مبدأ المشاركة في الوطن والعدالة في الحقوق.
في نهاية سنة 2016، لم اكن قد سمعت بهذا الإعلان حين تلقيت اتصالًا من الديبلوماسية السيدة زينب بنتهيلة من سفارة المغرب بواشنطن تخبرني بالزيارة المرتقبة لعددٍ من مساعدي أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى المغرب staffers وبالمناسبة يودون التعرف على هذا الإعلان .فاستعدت لللقاء بتجميع ما يكفي من المعطيات والوثائق .
وخلال استقبالهم لاحظت مدى الاهتمام الكبير الذي يوليه الجانب الأمريكي لهذه الوثيقة، رغم ان عمرها لا يتجاوزا اشهرا وكيف عبّر الحاضرون عن تقديرهم لمبادرة جمعت بين المرجعية الإسلامية والمقاربة الحقوقية الحديثة.واصبح واضحًا بالنسبة إليّ أن إعلان مراكش أحدث أثرًا حقيقيًا في النقاش الديني والسياسي داخل الولايات المتحدة، في حين لم يكن يحظى بنفس الزخم داخل بلداننا.
ولا يخفى عليكم أن للأقليات الدينية مكانة محورية في السياسات الدولية؛ فواشنطن عند انتخاب رئيس جديد للبلاد يعمد على تعيين سفير خاص للحرية الدينية في العالم، وينشر تقريرا سنويا .فيما تتوفر الأمم المتحدة على ولاية خاصة للحرية الدينية .
ومع ذلك، لا يزال هذا النص قليل الحضور في الوعي المغربي والاسلامي رغم ما يختزنه من قيمة فكرية وإنسانية وجسرٌ بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية، .
من هذا المنطلق، يظل إعلان مراكش وثيقة حيّة، تذكرنا بأن الكرامة أصل كل الحقوق، وأن الحرية شرط الإيمان، وأن المواطنة الحقة لا تكتمل إلا بالاعتراف بالاختلاف. وكما قال ابن رشد، «لا يُعرّف الإنسان بدينه بل بقدرته على التفكير».
وبذلك فحين تلتقي الفلسفة بالفقه، والضمير بالحق، يصبح الدين كما أراده الله: رحمةً للعالمين.