Wednesday 30 July 2025
في الصميم

أريري: أول درس تلقيته في الأنتروبولوجيا كان على يد جدتي

أريري: أول درس تلقيته في الأنتروبولوجيا كان على يد جدتي عبد الرحيم أريري
كلما حل شهر غشت أحس براحة أبدية، ليس لأنه الشهر الذي يرمز إلى العطلة والراحة، بل لأنه الشهر الذي أستحضر فيه روح جدتي للاعائشة وجدي سيدي الحسن، رحمهما الله.

ففي شهادة سابقة ( نشرتها يوم 4 يوليوز 2025)، أشرت إلى أن أبهى وأزهى فترات حياتي، هي تلك الفترة التي كنت أقضيها عند جدتي وجدي كل فصل صيف في مرحلة طفولتي ومراهقتي، بدوار الكواش التابع لمشيخة "أولادمحية" بمنطقة جمعة سحيم بعبدة.

كان الصيف عادة بالنسبة لي كل عام يبدأ في متم أبريل أو بداية ماي، بعد انقضاء الموسم الدراسي بإعدادية طارق بالبرنوصي ثم من بعد ثانوية المختار السوسي بنفس الحي.

في نهاية ماي ويونيو يبدأ " الحصاد والدراس" بالبادية، يليهما يوليوز، وهو شهر جمع الغلة وخزن المؤونة ب"التوفري" و"المطمورة"، وقيام سكان دوار الكواش وساكنة الدواوير المجاورة، بتوزيع "العباسية" على المحتاجين والفقراء وابن السبيل وعلى "لمشارطية" في المساجد.

تم يحل شهر غشت، شهر "الزهو والنشاط والقصارة" ب"الكاعة"(وهي المكان الذي يتم فيه "الدراس" بواسطة البهائم والفرز بين المحصول والتبن). كما كان غشت أيضا شهر "لعراسات"، أو الخلود الى الراحة بعد سنة من الجد والإجهاد في الحقل طوال العام.

وحدها جدتي للاعائشة التي كانت تعتبر شهر غشت شهرا مقدسا، لأنها كانت تعتبره شهرا للاحتفال بي كحفيدها.

نعم كنا ( أسرتي وأسرة خالي وخالتي)، أسرة متعددة وكثيرة الأفراد، لكني كنت الأكثر حظوة في قضاء أطول فترة من كل سنة مع جدي وجدتي بالدوار، ( وهي فترة عادة تبدأ كما قلت من نهاية أبريل أو مطلع ماي إلى مطلع شتنبر من كل موسم دراسي).

فعلى خلاف أيام يونيو ويوليوز التي أقضيها مع جدي بالحقل لمساعدته في حصد المنتوج بواسطة المنجل وجمعه في "الدراع" ونقله عبر الحمير إلى "الكاعة" للدرس والغربلة و"التديار"؛ كان شهر غشت مقسما إلى ثلاث فترات:

فترة صباحية ( تمتد عادة من الفجر الى العاشرة صباحا) مخصصة لجمع الحطب والوقيد( وهو براز البقر بعد أن يجف، ويستعمل كوقود للطهي) من أرض "الشبيكة" حيث كان يملك جدي قطعة أرض صغيرة من البور. أرض "الشبيكة"، كانت أرض بور وصخرية تبعد عن دوار الكواش بحوالي أربع كيلومترات. في هذه الأرض كنا نذهب لجمع الحطب كل يوم، وهي مسافة كنت أقطعها مع جدتي( على متن الحمار)، كل يوم تحكي لي فيها عن الأنساب وعن شجرة كل دوار، وتحكي لي فيها عن عادات وطقوس كل فخدة، وعن بروفيل كل الأعيان ومسارهم ومصدر ثرواتهم العقارية الهائلة.

كنت وأنا يافع، أستمتع بالسرد الدقيق لجدتي للاعائشة، وأجد لذة في حكيها الشيق والممتع دون أن أدري أن جدتي، رحمة الله عليها، سيكون لها الفضل في فتح شهيتي (لما ولجت جامعة الحسن الثاني بالبيضاء)، لأغرم بالأنتروبولوجيا وبعلم الاجتماع القروي في شعبة القانون العام بكلية الحقوق.
فبين كل دار وكل دوار وكل فخدة من القبيلة، كنت أنسج - بفضل جدتي - الشبكة الاجتماعية للحوض الذي تنتمي إليه مشيختنا: أحدد نسل سلالة نخب القبيلة وشبكة المصاهرات والعلاقة مع الخماسة والرباعة، وانتشار أبناء القبيلة " للي ساكنين في أسفي وكازا والواليدية والجديدة والويجانطي". كما سمحت لي بضبط من تزوج بمن، ومن باع الأرض لمن، ومن خان العهد ضد من، ومن أقرض المال لمن، ومن ساعد من، ومن تعبأ مع من لإصلاح المسجد أو حفر البئر لفائدة القبيلة، إلخ...

الفترة الزوالية، كانت تخصصها جدتي ل"نخض اللبن في الشكوة" لإنتاج اللبن واستخراج الزبدة. ورغم أن هذه العملية كانت مضنية وتتطلب مجهودا بدنيا. فإن جدتي كانت ترفض رفضا تاما أن أساعدها، أو أتولى"نخض اللبن" نيابة عنها، لأنها كانت مؤمنة أن هذا الاختصاص مسنود للنساء، وللنساء فقط دون الرجال. لكن بما أن هذه العملية تأخذ وقتا طويلا، وبما أن الجلسة كانت ممتعة وشيقة مع جدتي ، اهتدى جدي سيدي الحسن رحمه الله، إلى حيلة تضمن لي البقاء مع جدتي لمؤانستها بالنوالة من جهة ( "النوالة" هي مسكن عبارة عن كوخ من الخشب كان سائدا بتراب عبدة ودكالة إلى أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين، ولم يعد موجودا اليوم لتحسن مستوى عيش السكان نسبيا)، وتؤمن لي انشغالا لتزجية الوقت من جهة ثانية. ويتجلى ذلك في إقادم جدي على تعليمي فن صنع سلال(قفة) من "الدوم" لتسويقها يوم السوق"جمعة سحيم". وهي عملية كانت تسمح لجدي ببيعها في السوق، وبالتالي كانت العملية تضخ موردا ماليا إضافيا بسيطا يتدبر به جدي أحواله المعيشية.

في الفترة الزوالية كنت أستغل البياضات الزمنية لضبط معلومة أو استفسار جدتي عن معطى قبلي نسيته أو تفصيل انتقال ملكية عقار فلاحي من فلان لفلان. وحرصا منها على إشباع فضولي، لم تكن جدتي رحمة الله عليها، تتردد في الغد (ونحن متجهين إلى أرض الشبيكة) لترافقني إلى منزل فلان أو فرتلان، ليسمعني بنفسه روايته بشأن سؤال طرحته عليها، أو ترافقني إلى قطعة أرض فلان لترسم لي حدودها وطبيعتها ومسار انتقال ملكيتها إليه، أو تصطحبني إلى "جنان" محدد أو "بحيرة" معينة ( "لبحيرة" هي أرض مخصصة لزراعة الخضراوات والفواكه الصيفية، تكون عادة مجاورة للحقل الفلاحي)، لتحكي لي كيف تمت إراقة الدماء بين أبناء هذه الفخدة أو تلك بالقبيلة لحيازة العقار أو التصرف فيه بمقتضى "فرض الأمر الواقع".

أما الفترة المسائية فكانت فترة "لقصارة" بامتياز مع أبناء دوار الكواش، على نغمات لوتار والكمنجة للاستمتاع بترديد متن شيوخ وشيخات العيطة: تارة ب" الجنان" وتارة ب"المركز الفلاحي" وتارة ب "جنب البير". وحتى حين نكون نغني ونستمتع ب"العيوط"، تكون جدتي "حاضية" تنتظر عودة الحفيد ، وتبقى صاحية تحرس الشمع إلى أن أنام لكي لا تحترق "النوالة".

وفي الفجر تكون جدتي أول من يستيقظ لإعداد الحطب وإيقاظ النار وطهي" مسمن الملاوي" أو" خبز لكرون"، وإعداد الفطور لأصطحبها إلى أرض "الشبيكة" وأستمتع بحكاية جديدة عن الأنساب وعن شجرة القبيلة وتاريخ الدوار.

رحم الله جدتي وجدي، ورحم الله كافة الجدات والأجداد بدول المعمور.