Saturday 26 July 2025
خارج الحدود

محمد العمارتي: هل أصبح الشرق الأوسط "قبرا للقانون الدولي"؟

محمد العمارتي: هل أصبح الشرق الأوسط "قبرا للقانون الدولي"؟ محمد العمارتي، أستاذ جامعي للقانون الدولي بكلية الحقوق ومشهد مؤلم لضحايا غزة
قد يعتبر البعض أن التساؤل الذي يثيره عنوان هذه المقالة لا يخلو من مجازفة لأنه ينطوي على قدر كبير من الجزم والمبالغة في توصيف حالة القانون الدولي، وقد يرى البعض الآخر أن صيغة هذا السؤال صادمة ومقلقة ومستفزة. وفي كلتي الحالتين تفرض الأمانة تنبيه القارئ الى أن هذه الصيغة مقتبسة من الأستاذ « Serge Sur » الذي يعتبر واحدا من الأكاديميين الفرنسيين المرموقين في القانون الدولي (مؤسس لمركز ثوسيديدس: Thucydide للأبحاث في العلاقات الدولية وللدورية الفرنسية السنوية للعلاقات الدولية، عضو سابق في فريق الخبراء لدى الأمين العام للأمم المتحدة في مجال نزع السلاح والتحقيق في استعمال الأسلحة الكيميائية، قاضي خاص سابق لدى محكمة العدل الدولية، وتقلد مسؤوليات عديدة في بلاده وعلى الصعيد الدولي كخبير بارز في القانون الدولي ...). وأحسب أنه لم يكن قصد الأستاذ «Sur» عند استعماله لهذه الصيغة القوية هو الإعلان عن "الموت الحقيقي " للقانون الدولي في منطقة الشرق الأوسط، بقدر ما كان يقصد التأكيد على أن هذه المنطقة من العالم باتت أوضح مثال على الإخفاقات المتكررة لهذا القانون في ضبط النزاعات المسلحة ،وعجزه عن تأمين الحماية للمدنيين وفرض احترام المعايير القانونية الكونية في غمار العنف المسلح الذي يجتاح هذه المنطقة.
 
وهكذا، إن منطقة الشرق الأوسط ليست " قبرا " ٍ بالمعنى الواقعي لهذه الكلمة، لدفن القانون الدولي وإعلان نهايته، ولكنها تصف وتعكس ما تحفل به هذه المنطقة من المظاهر الأكثر حدة، والأشد عنفا، والأوسع انتشارا إعلاميا للأزمة التي يعرفها القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما بعد انفجار الوضع في هذه المنطقة بسبب الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 وتداعياتها وهجماتها العدوانية على لبنان وسوريا واليمن وإيران.
 
ومما لا يحتاج الى بيان، أن الشرق الأوسط كان خلال العقود الماضية وما يزال الى اليوم فضاء محوريا في العلاقات الدولية ،وساحة مشحونة على الدوام بالتوترات الجيوسياسية العالمية. وقد باتت هذه المنطقة في الوقت الراهن، عنوانا للصراعات المزمنة وللمعاناة الإنسانية الشديدة، وللدوس على قواعد القانون الدولي والاستهتار بمبادئ وقيم حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. فيكفي ذكر أسماء قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وسوريا واليمن على سبيل المثال، لاستحضار جملة من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك استعمال الأسلحة المحظورة، وقصف المدنيين دون تمييز، وفرض الحصار على السكان بقصد ترويعهم وتجويعهم، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إليهم، وترحيلهم قسرا من منطقة لأخرى، وغيرها من الانتهاكات الكثيرة التي تقوض المعايير القانونية الدولية التي من المفروض أن تضمن الحماية والحد الأدنى من السلامة و الأمان للسكان المدنيين أثناء النزاعات المسلحة.
 
فأمام هذه الحقائق المرعبة التي تكاد ان تصبح الطابع المميز للشرق الأوسط، لم يعد الكثير من المحللين يترددون في وصف ما يرتكب في هذه المنطقة من خروقات متواترة وخطيرة وواسعة النطاق، بحالة مقلقة لاحتضار القانون الدولي نتيجة الفشل الذريع للمجتمع الدولي في فرض سلطة وهيبة القانون على الدول التي تحركها نوازع الحرب ومنطق القوة وأطماع الهيمنة.
 
فهل بات الشرق الأوسط يجسد مظاهر الإفلاس الكامل للقانون الدولي؟ أم يمكن النظر اليه كساحة لخوض معركة قانونية لا زال فيها للقانون الدولي كلمته – رغم كل مؤشرات التراجع وعلامات التقهقر والانحسار – ولا زال يقاوم من أجل فرض الحد الأدنى من قواعده على الجميع؟
 
لا يجادل أحد من القانونيين والمحللين المشهود لهم بالنزاهة الفكرية والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تشخيص الوضع السائد في الشرق الأوسط، من زاوية القانون الدولي جراء الحرب العدوانية التي فرضتها إسرائيل على قطاع غزة وهجماتها غير المشروعة على دول المنطقة، (لا يجادلون) في ثبوت ارتكاب إسرائيل لعدد من الانتهاكات الجسيمة والمتكررة للقانون الدولي.
 
و تفاديا منا لجرد وتعداد كافة الانتهاكات المنسوبة لإسرائيل من زاوية القانون الدولي الإنساني في سياق حربها على قطاع غزة والضفة الغربية وسكانها المدنيين، يكفي أن نشير من بين جرائم شتى يتعرض لها الفلسطينيون في غزة إلى الحصار المفروض على القطاع منذ سنة 2007، الذي يعتبره العديد من القانونيين مشابها للعقاب الجماعي لفئات يجب أن تحظى بالحماية، وهو فعل محظور طبقا للمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة. كما أن تقارير مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة و وكالة" الأونروا " لإغاثة للاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي ، و تقارير المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ1967، وغيرها من تقارير المنظمات الدولية غير الحكومية المشهود لها بالخبرة والمصداقية على الصعيد العالمي، قد وثقت و أكدت بما لا يدع مجالا للشك، ثبوت الهجمات وعمليات القصف التي تستهدف المدنيين والمستشفيات والمدارس وناقلات الإسعاف والطواقم الطبية ومقرات ومخازن الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة والصحافيين ... ومنع وصول المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين، وإجبارهم على التنقل من منطقة إلى أخرى بذريعة إبعادهم عن أمكنة القصف أو العمليات القتالية على الأرض ، وتعمد إلحاق المعاناة الشديدة أو الأذى الخطير بالجسم أو بالصحة.
 
وهكذا، فإذا ما صرفنا النظر عن الانتهاكات الخطيرة التي طبعت سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عقود، فقد تحولت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وسكانها المدنيين منذ أكتوبر 2023، الى حالة نموذجية للتمادي في الخرق السافر والمتكرر والمتعمد لقواعد القانون الإنساني، ولارتكاب كافة الجرائم الدولية التي يمنعها هذا القانون، والمبدأ والقاعدة تقتضي إثارة المسؤولية الجنائية الفردية لمرتكبيها وعدم إفلاتهم من العقاب. وقد بلغت خطورة هذه الانتهاكات وتواترها وتكرارها حدا دفع جمهورية جنوب أفريقيا الى توجيه اتهام ارتكاب القوات الإسرائيلية لجريمة الإبادة الجماعية، وتقديم دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية التي اعترفت في الأمر الاستعجالي الذي أصدرته في المرحلة التمهيدية من هذه الدعوى، بتوفر عناصر وقرائن كافية تدفع الى الاعتقاد بارتكاب إسرائيل لإبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
 
وأمام الوضع الإنساني الكارثي وانتشار المجاعة في قطاع غزة التي وصفتها الأمم المتحدة بالجحيم على الأرض ، وتزايد أعداد القتلى بين المدنيين في مراكز توزيع المساعدات الغذائية بسبب إطلاق الرصاص عليهم أو استهدافهم بالقصف ،لا زال مجلس الأمن مشلولا بسبب الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل وتعطيل اتخاذ أي قرار ضدها ،الأمر الذي يرسخ فكرة ازدواجية المعايير على الصعيد العالمي والعدالة الانتقائية ، وترجيح الاعتبارات الاستراتيجية والأيديولوجية والرهانات الجيوسياسية على الالتزامات القانونية للدول والاحتكام إلى القانون الدولي و الامتثال لقواعده.
 
وفي دول أخرى بالشرق الأوسط مثل لبنان وسوريا واليمن، فإن الوضع من زاوية الانتهاكات المتواصلة للقانون الدولي لا يختلف كثيرا عن الصورة القاتمة التي يمكن رصدها في قطاع غزة والضفة الغربية. ويكفي التذكير باستعمال الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين من طرف النظام السابق في سوريا وقصفه للمدن بشكل عشوائي، والإخفاء القسري وممارسة التعذيب المنهجي على نطاق واسع للأفراد. وفي اليمن الذي يعيش على وقع نزاع مسلح داخلي أججته التدخلات الأجنبية لبعض دول المنطقة منذ أزيد من عشر سنوات، فإن الأمم المتحدة ما فتئت تحذر من تفاقم الوضع الإنساني للمدنيين بفعل المجاعة وانتشار الأمراض والانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتحاربة.
 
وقد امتد لهيب ودمار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الى جنوب لبنان وعاصمته بيروت، حيث تعرض السكان المدنيون للاستهداف بالهجمات والقصف الإسرائيلي والاعتداء على السيادة الإقليمية والتدمير الكثيف للمباني في تعارض صارخ مع القانون الدولي. ولم يتوقف القصف والتدمير إلا بعد توقيع اتفاق هش لوقف إطلاق النار قد تختلق إسرائيل الذرائع المعتادة لتعصف به في أي لحظة، من قبيل الدفاع الشرعي أو التدخل الوقائي أ وحماية مواطنيها من هجمات حزب الله اللبناني.
 
إن العناصر التي حاولنا اختزالها تبرز بالتأكيد بعض تمظهرات الأزمة التي يعرفها القانون الدولي واحترام وإعمال قواعده في النزاعات التي تمزق منطقة الشرق الأوسط ، وإذا كان صحيحا أن الانتهاكات المتوالية لهذا القانون والتي تتعامل معها بعض القوات الكبرى ولا سيما منها تلك الحليفة لإسرائيل بالتجاهل واللامبالاة غالبا، وتتحاشى تحمل مسؤولياتها و الوفاء بالتزاماتها في تحريك آليات المساءلة الدولية والفردية لمرتكبيها ( تعطيل مجلس الأمن ، عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ، الاستمرار والتمادي في تصدير الأسلحة والعتاد الحربي لإسرائيل ، الإحجام عن فرض أي عقوبات دبلوماسية أو اقتصادية على إسرائيل، تعميم فكرة كون القانون الدولي لا يحمي الضعفاء، تقوية الإحساس بالإفلات من العقاب ...)، فهل يجوز مع ذلك القطع بنهاية منظومة القانون الدولي وانهيارها الكامل ؟والتسليم بواقع غلبة القوة وتفوقها على القانون في منطقة الشرق الأوسط تحديدا ؟
 
في رأيي رغم كل السلبيات الكثيرة التي يمكن رصدها والتي تؤكد محدودية القانون الدولي وتناقضاته وعجزه المزمن، فإن النسبية تقتضي الاعتراف أن القانون الدولي إذا كان قد أصابه فعلا ضعف ووهن كبير، وأضحت قواعده عرضة إما للتوظيف أو التحريف أو عدم الاكتراث أو الاستهانة والتبخيس، فأنه رغم ذلك سيكون من المغالاة والإجحاف بل وربما من المخاطرة، الحكم عليه بالموت النهائي والاندثار. وقد لا تعوزنا الشواهد والحجج التي تسند هذا الرأي وتكسبه قدرا من الوجاهة والصواب.
 
ولعل من أهم ما يعزز هذا الرأي، أن القانون الدولي لازال يوفر خطابا لاكتساب المشروعية على الصعيد الدولي. فبالرغم من التناقضات التي تحاصره وتحد من تأثيره على الواقع الدولي، فحتى الدول الأشد تعرضا للانتقاد لا تتردد في استدعاء القانون الدولي والاحتجاج به والإحالة إلى قواعده لتبرير أعمالها وتصرفاتها. فإسرائيل مثلا، توظف القانون الدولي للدفاع عن الحرب التي شنتها على قطاع غزة ولبنان وهجماتها العدوانية مؤخرا على إيران وسوريا بالاستناد على «الدفاع الشرعي" و"العمليات العسكرية الاستباقية "ضد الخطر والتهديد الوشيك لأمنها ولحماية مواطنيها، و "الاستخدام المتناسب للقوة"، ومحاربة "الإرهاب".
 
ومن جهة الفاعلين غير الدول، لا ينبغي إنكار الأدوار المهمة التي يضطلع به المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وخاصة في مجال رصد انتهاكات القانون الدولي و وحرصها على المراقبة والحفاظ على اليقظة القانونية، والجهود التي تبذلها من أجل توثيق الانتهاكات وإعداد التقارير بشأنها و إجراء التحقيقات والتحريات حول الوقائع ،ومباشرة الإجراءات لتحريك الدعاوى أمام الآليات التعاهدية المعنية للأمم المتحدة والهيئات القضائية الوطنية والدولية، ناهيك عن توعيتها للرأي العام وكشفها عن طبيعة ونوع وحجم وخطورة الانتهاكات المرتكبة في وضع معين، والترافع المتواصل لفضح انتهاكات القانون الدولي و القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني .
 
ويمكن استحضار بعض الشواهد الإيجابية الأخرى التي تبرز – رغم حالة الضعف التي تطبع القانون الدولي عموما، أوجها أخرى من المكتسبات الرمزية والقانونية وذات التأثير السياسي، التي تحققت بالشرق الأوسط حصرا بالاستناد على القانون الدولي والتسلح بأدواته وقواعده. وفي هذا الإطار نسوق الأمثلة الدالة الآتية :
-الاعتراف لفلسطين بصفة الدولة الملاحظة الدائمة في الأمم المتحدة، وتعتبر هذه الخطوة مكسبا رمزيا ومعنويا مهما لأنه يمهد الطريق نحو انتزاع الاعتراف الكامل بالعضوية لفلسطين في الأمم المتحدة، رغم عناد وإصرار الولايات المتحدة وبعض اتباعها على معاكسة هذا المطلب ورفضه في مجلس الأمن (استعمال الفيتو والامتناع عن التصويت).
- انضمام فلسطين الى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في 2015
- تأكيد المحكمة الجنائية الدولية في 2012 اختصاصها للنظر في الجرائم المنسوبة لإسرائيل في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
- إقرار محكمة العدل الدولية في 2024 بوجود خطر محتمل ووشيك لارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. (لا زالت المحكمة لم تصدر قرارها في جوهر الدعوى).
- إصدار المحكمة الجنائية الدولية في نونبر 2024 لمذكرات اعتقال في حق رئيس الحكومة الإسرائيلي" نتانياهو" والوزير السابق للدفاع" غالنت" بتهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
- التزايد الملحوظ لعدد الدول والمنظمات الدولية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وحسم محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر في يوليوز 2024 مسألة عدم قانونية هذا الاحتلال وضرورة إنهائه وفقا للقانون الدولي. ويعكس هذا الرأي ويؤسس لتوافق دولي بشأن عدم قانونية استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين رغم افتقاد هذا الرأي لسبل التطبيق الإلزامي.
- اصدار مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لعدد من القرارات التي تكرس مبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة وتدين إقامة المستوطنات الإسرائيلية باعتبارها عملا غير مشروع ويتنافى مع القانون الدولي. ورغم أن هذه النصوص لا تكتسب دائما القوة الملزمة فإنها تحمل دلالة قانونية ومعنوية قوية لكونها تذكر بعدم شرعية بعض الأعمال والممارسات ومخالفتها الصريحة للقانون الدولي.
- توظيف الفاعلين الفلسطينيين قاموس القانون الدولي ومفاهيمه ومرجعياته للترافع عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والمقاومة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، ولفضح الانتهاكات التي ترتكبها القوة المحتلة. وقد طور الحقوقيون الفلسطينيون تملكهم للقانون الدولي واستعماله كأداة للدبلوماسية والمقاومة (المحكمة الجنائية الدولية، الحق في تقرير المصير، سياسات وممارسات الفصل العنصري في الأراضي المحتلة، العقاب الجماعي، التطهير العرقي، الإبادة الجماعية). كما ان الفاعلين المدنيين الفلسطينيين والمنظمات والحركات العالمية التي تساندهم تستند في خطابها الموجه الى الرأي العام على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ومعايير الشرعية الدولية.
- المواقف الحازمة والجريئة للعديد من الشخصيات الأكاديمية الشهيرة على الصعيد العالمي في القانون الدولي وتعبيرها الصريح عن رأيها المنتقد بشدة للانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل في غزة والضفة الغربية وخرقها المتواصل للقانون الدولي. وتكتسي هذه المواقف والآراء أهمية معنوية واكاديمية لا يستهان بها، و تعكس نفسا نضاليا لا يخلو من تأثيرعلى مسار النقاش العالمي الراهن حول الوضع الإنساني في غزة الذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة ب"مشهد الرعب " الذي بلغ مستوى لا مثيل له من الموت والدمار في الآونة الأخيرة ، كما أن مساعد الأمين العام لشؤون الشرق الأوسط دعا مجلس الأمن الى ضرورة وضع حد " للكابوس التاريخي" في غزة فورا.
- إعلان الرئيس الفرنسي في 24 يوليوز 2025عن قرار فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين أثناء انعقاد الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2025.
 
العناصر السابقة التي عرضناها باختصار، تقودنا الى اعتبار الشرق الأوسط بالأحرى مرآة صادمة، تعكس مستوى العنف المزمن الذي تعيش فيه وتعاني من آثاره وتبعاته شعوب هذه المنطقة، أكثر من اعتباره قبرا لدفن القانون الدولي. فهذا القانون بلغ حالة متقدمة من أزمته الشاملة ليس في الشرق الأوسط وحده، ذلك أن انتهاكات مماثلة لتلك التي أشرنا اليها ترتكب في سياقات مختلفة وبدرجات متفاوتة في نزاعات أخرى مثل الحرب الروسية الأوكرانية، أو في دول الساحل وفي جنوب السودان وفي ميانمار وهايتي ...
 
فمشكل القانون الدولي ذو طبيعة بنيوية، وهو الأمر الذي تنبه له منذ عقود بعض القانونيين المنتمين لدول الجنوب، حينما انتقدوا التوجه الغربي والأحادي للقانون الدولي، و كشفوا الخلفية المتمركزة حول أوروبا التي تهيمن على الكثير من مفاهيمه و مرجعياته . كما أن بعض القانونيين من ذوي الصيت العالمي (مثل الأمريكي Richard Falk والجنوب افريقي John Dugard وبعض القانونيين الدوليين الكبار من أمثال الكندي William Schabas والفرنسيان.. Alain Pelletو, Robert Charvin, والمؤرخ الإسرائيلي Raz Segal ...) بدأوا ينبهون، بعد التطورات الخطيرة للحرب على غزة، من عواقب فقدان القانون الدولي لمشروعيته ومصداقيته، مؤكدين أن إعراض الدول الكبرى عن اجبار إسرائيل على الكف عن انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي في الشرق الأوسط ،يغذي الخطاب حول عجز هذا القانون وشلله وتقويض الثقة فيه، وتأكيد الاعتقاد السائد لدى شعوب المنطقة بان إسرائيل دولة فوق القانون الدولي وبأن ازدواجية المعايير والتطبيق الانتقائي للقانون الدولي هو القاعدة في الشرق الأوسط.
 
خلاصة ما تقدم هي أن الشرق الأوسط يعتبر في نفس الآن ميدانا لاختبار مدى فعلية القانون الدولي، والكشف عن محدودية قواعده والقيود التي تعيق إعمالها. فالمعايير موجودة لكنها تكون عرضة للتجاهل أو التحريف أو الخرق بسبب منطق القوة وحالة التعطيل ا المفروضة على الأجهزة السياسية والآليات القضائية الدولية وإعاقة أدوارها في فرض احترام القانون الدولي.
 
فإذا كان القانون الدولي أصابه الضعف والعجز في الشرق الأوسط، فإن السبب لا يكمن في غيابه الكامل بقدر ما يعود الى إخفاقه في فرض سلطته في مواجهة علاقات القوة الجيوسياسية وعدم توازنها الصارخ في المنطقة.
 
إن القانون الدولي لا زال موجودا على الرغم من التباعد والتوتر الحاصل بين المعايير الدولية والواقع السياسي، ولا زال هذا القانون أساسا للشرعية الدولية ووسيلة يمكن الاحتجاج بها وتوظيفها في المحافل الدولية والمعارك القانونية، أما إعلان موته ونهايته فيعتبر بالتأكيد أمرا محفوفا بالمخاطر على مستقبل المجتمع الدولي برمته.
 
 
د / محمد العمارتي / أستاذ جامعي للقانون الدولي بكلية الحقوق – وجدة (سابقا)