Saturday 26 July 2025
كتاب الرأي

جمال المحافظ: في الذكرى العاشرة لرحيل العربي المساري والحاجة لنقلة نوعية في الإعلام في زمن اللايقين

جمال المحافظ: في الذكرى العاشرة لرحيل العربي المساري والحاجة لنقلة نوعية في الإعلام في زمن اللايقين جمال المحافظ

" قوة الأمم  تكمن في تصالحها مع ماضيها وحاضرها وفي حسن قراءتهما

حتى يسهل عليها بناء المستقبل بأكبر قدر من النجاح التقدم"

عبد الرحمان اليوسفي ( 1924 – 2020 )

 

تحل يوم الجمعة 25 يوليوز 2025، الذكرى العاشرة لرحيل الصحفي والكاتب والدبلوماسي والوزير محمد العربي المساري (1936- 2015 ) الذى تظل الأفكار والمواقف التي دافع عنها قيد حياته حاضرة، ويزيد من عمقها الخصال النبيلة التي كان يتمتع بها طوال حياته الزاخرة بالعبر والمواقف، فضلا عن ثراء ما خلفه من مؤلفات وما قام به من أعمال جليلة ليس فقط في مجال الصحافة والاعلام،بل في حقول معرفية تشمل ميادين السياسة والثقافة والتاريخ.

إن من شأن  التراث الغني - إن جرى الالتفات إليه واستثماره- أفضل   نبراس يمكن أن تسترشد به الأجيال المتعاقبة،  وتتمثله بملائمته مع التحولات الراهنة،  خاصة وأننا في زمن يلاحظ فيه قلة الالتزام بقواعد النزاهة الفكرية والاستقلالية المهنية. لقد كان الراحل معروفا عنه اطلاعه الواسع على مجريات الاحداث الوطنية والدولية ومواكبته المنتبهة لكل الانتاجات الفكرية والابداعية والصحفية، التي كان كثيرا  ما يوظفها ببراعة وأناقة التي كانت تميز كتاباته ومساهماته في اللقاءات والندوات المتعددة، ودقة انتباهه وانشغالاته بالقضايا التي تستأثر باهتمامات الرأي العام.

 

صحفي متميز

فالمناصب الكبرى والوظائف السامية والمسؤليات في قيادة الحزب والنقابات والبرلمان وغيرها، لم تنل من تواضعه ودماثة خلقه، ولم تغير شيئا من طبعه فقد ظل إنسانا شغوفا بالعلم والمعرفة، وإعلاميا متميزا، وكاتبا لا يشق له غبار بأسلوب لا يضاهيه فيه أحد، يتسم بالبساطة والسلاسة في التعبير، والأخذ بتلابيب القارئ والاهتمام بالتفاصيل، وبالمنطق وبالحجة في الدفاع عن القضايا المغربية  وعلى رأسها قضية الصحراء. ومع تعدد الواجهات التي خاض فيها نضالاته: الحزب والنقابة والاعلام والبرلمان والوزارة والسفارة وجمعيات المجتمع المدني، فإن الرجل استطاع أن يكسب احترام الجميع، ويتجنب الخصومة والعداء حتى مع من يعارضونه الرأي حسب ما جاء في تقديم كتاب " محمد العربي المساري .   في رحاب التاريخ " الذي أصدرته الجمعية المغربية للبحث التاريخي..

غير أن الراحل المساري، ظل  يراهن طوال حياته على الأدوار الحاسمة التي تضطلع بها الصحافة الاعلام، ويحث في هذا السياق سواء من موقع بالنقابة الوطنية للصحافة المغربية التي انتخب كاتبا عاما بها سنة 1993 الى 1998 حين تعيينه وزيرا للاتصال  (يحث ) على ضرورة القيام بإصلاح شمولي لقطاع الصحافة والاعلام، وخاصة السمعي البصري العمومي، الذى يمكنه أن  يتحول إلى قاطرة للاعلام، ويتمكن لتحقيق المصالحة المطلوبة مع الجمهور، الذي يمر بالضرورة عبر تكريس المهنية واحترام التعددية والشفافية والحكامة مع استيعاب التحولات الجارية ومتغيرات مزاج الرأي العام في مجالات الاخبار والتثقيف والترفيه.

بيد أن " الاعلام العمومي المغربي خاصة السمعي البصري الذي يجب أن يكون في نسق واحد مع التطور الحاصل في البلاد "سار دائما وأبدا، على ايقاع تقلبات الوضع السياسي، محكوما بعدم الاحتكام الى المنطق والقوانين والمفاهيم التي تسير هذا المرفق" العمومي" ، وهي خلاصة التي كان قد استنتجها بنفسه، في معرض تقديمه لمؤلف " رحلتي مع الميكرفون" للإعلامي محمد بن ددوش ( 1929- 2023 ).

 

رائد أخلاقيات المهنة

فمنذ انتخابه كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة، خلفا لمحمد اليازغي الذي كان مديرا لجريدة " المحرر " المصادرة، عمل على جعل قضية أخلاقيات مهنة الصحافة، ضمن أولويات النقابة خاصة بعد المشاكل الناجمة عن تنامي ظاهرة ما سمي آنذاك “صحافة الرصيف”، التي كانت تغرق السوق المغربية بهذه الإصدارات، وهي أسبوعيات كان يضاف إليها دائما السياسي، وتختص في نشر موضوعات لا علاقة لها بالعمل بروح الصحافي المهني، معتمدة على اختلاق الأخبار، وإطلاق الإشاعات، والنهش في أعراض الناس، واعتمادها على أسلوب الابتزاز والتضليل لخلق الضبابية في مجالات الصحافة والإعلام، وهذا ما كان يجعل الجميع أمام إرهاب من نوع جديد يمارس عن طريق هذا النوع من "الصحافة"، التي يعد شتم الأعراض والقذف والتشويه، سلاحها المفضل.

وفي ظل هذا الوضع، اهتدى المساري الذي يعد أب أخلاقيات المهنة، بحسه الإبداعي وباستقلالية الصحافي إلى إنشاء " لجنة آداب المهنة"، التي كانت تضم شخصيات إعلامية وزانة، كانت مهمتها تتجلى في السهر على إعمال " ميثاق الشرف" الذي اعتمدته النقابة منذ ذلك التاريخ. ويضم تسعة بنود، مستمدة من المبادئ الكونية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، وكذلك من مقومات العمل الصحفي الهادف إلى الإخبار الصادق والنزيه والموضوعي ، وواجب التضامن المهني.ومنذ ذلك التاريخ أصبحت بطاقة العضوية بنقابة الصحافة، تحمل إلى جانب المعلومات الشخصية للمنخرط، نص الميثاق للتعريف به وتأكيد التزام الأعضاء المنخرطين باحترامه.

 

تحسين أوضاع الصحافيين

وخلال جمعها العام الثالث في 1996، الذي انعقد تحت شعار " احترام أخلاق المهنة وتحسين أوضاع الصحافيين، شرط للنهوض بالصحافة”، تقرر خلال ولاية المساري، وقبل سنتين على تعيينه وزيرا للاتصال بحكومة التناوب سنة 1998، إحداث لجنة دائمة ضمن لجان النقابة، تعنى بموضوع الأخلاقيات، وتركز عملها الأساسي في الدراسة والرد على الشكاوى والتظلمات، من الممارسات المخلة بشرف المهنة، والتي تباشرها بعض المنابر الإعلامية ويرتكبها بعض الصحافيين. كما دأبت النقابة آنذاك على تتبع وتقصي ظاهرة الإخلال بأخلاقيات المهنة، وتضمين تقاريرها السنوية التي كانت تصدرها جردا وتشخيصا لهذا الانحراف الخطير، باعتبار أن ذلك يهدد شرف المهنة ومصداقيتها لدى الرأي العام.

وتوج هذا المسار الكويل بتأسيس هيئة وطنية تهتم بأخلاقيات المهنة بحرية التعبير في 2002، بناء على توصية من المؤتمر الرابع للنقابة المنعقد خلال السنة نفسها، وهي المبادرة التي شكلت حينها حدثا بارزا في تاريخ الصحافة المغربية والعربية والإفريقية، وحظيت بترحيب كبير من لدن الراحل المساري التي كان يعتبرها الاطار الأمثل للتنظيم الذاتي المدني المستقل، والتطور الطبيعي، في التعاطي مع أخلاقيات المهنة، وتلك قصة أخرى، سيأتي الوقت لاستعادتها.

 

التغيير معركة مستمرة

لقد كان يعتبر المساري أن التغيير في الصحافة والاعلام لا يتأتى بقرارات فوقية، بل هو معركة مهنية مستمرة، وأن المكتسبات لا تكون نهائية كذلك، بل تظل مفتوحة على كل الاحتمالات خاصة في مرحلة حاسمة والتي يزيد من صعوبتها ما يعتمل من تحولات وطنية ودولية، وما تفرزه الثورة الرقمية من تحديات يومية وفي ظل هذه المتغيرات كان يؤكد المساري، على ضرورة التوفر على مقاولات إعلامية عصرية قوية، قادرة على إشباع حاجيات المتلقي بمعطيات تمكنه من التفاعل مع بيئته ومحيطه  كما كان يدعو إلى  التأسيس لإعلام متحرر ديناميكي معانقا للواقع، وأن الفاعلين بمختلف المواقع، مطالبين باستيعاب معطى أن النهوض بالإعلام، يتطلب عصرنة المقاولات، وترسيخ الاحتراف، والالتزام بالمهنية حتى تقوم مقاولات إعلامية قوية، قادرة على إشباع المتلقي بمعطيات، تمكنه من التفاعل مع بيئته، وتكون بعيدة عن الوصاية والتوجيه الواحد.

 

استعادة القيم

فالذكرى العاشرة  لرحيل المساري تتزامن مع " الجدل" الدائر حول " مشروع إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة" وهي مناسبة لاستحضار دوره الرائد خاصة على مستوى  الانشغال باشكاليات أخلاقية المهنة التي كانت تعتبر في تسعينات القرن الماضي من الأجيال الجديدة في اهتمامات الصحافة المغربية . فالحاجة قائمة لاستعادة القيم التي ناضل من أجلها، قيد حياته  والتي تسائل كافة مكونات المشهد الصحفي والإعلامي؛ كل من موقعه حول تراجع منسوب الصحافة والاعلام وتدنى الممارسة المهنية التي لم تستفد من إيجابيات التطور التكنولوجي

العربي المساري، كان صحافيا وإعلاميا مهنيا استثنائيا بامتياز، ورجلا ديمقراطيا مدافعا عن حرية الرأي والتعبير والصحافة، لازالت  بصماته حاضرة في الوجدان الوطني الجمعي وساهم باقتدار في خدمة الوطن وقضاياه الحيوية، وهو ما جعله أيقونة  الصحافة المغربية، في زمن اختلت فيه الموازين، وقل فيه الحكماء والنزهاء.

الراحل الذي ازداد بتطوان، بدأ مساره الصحافي بالإذاعة الوطنية سنة 1958، قبل أن يلتحق سنة 1964 بجريدة (العلم)، كمحرر فرئيس تحرير ثم مديرا لها سنة 1982. وعلى المستوى السياسي التحق سنة 1965 بالمجلس الوطني لحزب الاستقلال خلال مؤتمره السابع، وانتخب خلال ذات السنة عضوا في اللجنة المركزية للحزب، قبل أن يتم انتخابه سنة 1974 عضوا في لجنته التنفيذية. وعين المساري، الذي كان كاتبا عاما لاتحاد كتاب المغرب لثلاث ولايات، سفيرا للمغرب بالبرازيل من 1985 إلى 1991.  كما شغل حقيبة وزارة الاتصال من مارس 1998 إلى شتنبر 2000 .

للمساري أزيد من 20 مؤلفا ، من بينها "معركتنا ضد الصهيونية والإمبريالية" سنة 1967، و"المغرب/إسبانيا في آخر مواجهة" (1974)، و"الأرض في نضالنا السياسي بعد الاستقلال" (1980)، و"صباح الخير أيتها الديمقراطية" (1985)، و"المغرب بأصوات متعددة" (1996)، و"المغرب ومحيطه" (1998)، و"محمد الخامس.. من سلطان إلى ملك" (2009)، و"ابن عبد الكريم الخطابي من القبيلة إلى الوطن" (2012 ).