هل هذا السؤال سليم في إطلاقيته؟
طبعا لا، لأن فيه مبالغة، بل مبالغة مقصودة..
لأن الغاية من طرحه استفزازية لشحذ التأمل والتحليل بشكل أعمق. وهو يستبطن سؤالا آخر ثاويا:
ما الذي يقلق الجزائر منا نحن المغاربة (الدولة والمجتمع)؟
سأبدأ من واقعة استفزتني تأمليا كمواطن مغربي، سجلتها بغير قليل من الإستغراب والدهشة الأخوية، خلال الشهر الذي دامته نهائيات كأس العالم بقطر (نونبر 2022). تتمثل في بعض المواقف التي انزلقت إليها نخب جزائرية من مستويات متعددة كان واضحا أن ما حكمها فقط هو غريزة "الحسد"، ذلك الذي حين يستبد بصاحبه لا يدفعه إلى "الإبداع التنافسي" قدر جره إلى "التخبط السلبي" ضد الذات وضد الآخر.
كان الأمر مثيرا حينها من نخب مفروض أنها تصنع الرأي العام بالجزائر الشقيقة، علامة على المدى الذي بلغه في لا وعيهم "الموضوع المغربي" من سلبية.. لأن القيمة الدلالية (الإنتصار الرياضي في محفل عالمي) الذي بلغته الشبيبة المغربية بتقنيات المنافسة الرياضية الشريفة، أخرج طاقة سلبية مثيرة عند تلك النخب للأسف وجعل السؤال القلق يكبر جديا في ضفتنا التأملية.
كان ذلك سببا جديا لطرح سؤال آخر:
هل نعرف مغربيا الجزائر جيدا؟
إنه سؤال معرفة وليس مجرد مزايدة كلامية. بل إنه مهم هنا أن نحاسب أنفسنا كمغاربة كيف أننا لا نتوفر على مركز دراسات مغاربية بذات مستوى "مركز الدراسات الإفريقية". كيف أننا فقراء أكاديميا على مستوى امتلاك معرفة رصينة ببنية المجتمع الموريتاني والمجتمع الجزائري والمجتمع التونسي والمجتمع الليبي. أننا لا نتوفر على خبراء مغاربة في الشأن الجزائري ينتجون مادة معرفية لا يمكن إلا أن تكون مفيدة لكل صاحب قرار سياسي بمنطق الدولة.
على كل حال لا بد من تسجيل ملاحظة أولية، أنه حين نتأمل السؤال أعلاه يكاد أن يكون تقرير رئيسة قسم شمال إفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن (معهد رسمي يقع مقره ببرلين) السيدة إيزابيل فيرينفيلز، الذي يقول ضمنيا بالمصلحة (مغاربيا) في فرملة الصعود المغربي بغرب إفريقيا، له معنى مفسر.
بمعنى آخر، كما تمت الإشارة إلى ذلك حينها، يكاد يكون التقرير الألماني كما لو أنه يتحدث بلسان حال جزائري (وتونسي أيضا بدرجة أقل). أي بمنطق تبسيطي فإنه أمام الأعطاب المؤسساتية المكبلة تدبيريا لمسارات التنمية بالجزائر لأسباب ذاتية مخصوصة بها داخليا، فإن على باقي شعوب الجوار المغاربي (خاصة المغرب) أن تتوقف على المسير حتى تقف السياسة الحكومية الجزائرية على رجليها، ثم يتحرك الجميع بحرية.. هذا تفسير عبثي طبعا، إن وجد..
إن الواقع الذي لا يرتفع هو أن "المغرب صار عقدة عند أغلب النخب الجزائرية" بشكل يوجب عليهم الإنتباه للمسار الذي تأخذهم إليه هذه الحالة التي لا تجد تفسيرات مقنعة لها سوى في مجالات "علم النفس". بكل ما يفتحه ذلك (في غياب انتباه وتيقض بسقف وطني بناء) من مسارب لأجندات فوق مغاربية وفوق جزائرية، تشحن الصدور بديناميت التطرف والتصعيد هنا وهناك.
في الحاجة إلى فهم أس الشخصية الجزائرية
سيحكي لي مرة مسؤول مغربي رفيع أنه صدم حين نصحه مسؤول جزائري قائلا:
"أنتم المغاربة لا تفهموننا نحن الجزائريين. لا تردوا علينا، حتى حين نكون مخطئين، لا تقولوا لنا أنتم مخطئون. نحن هكذا. لا نتقبل النقد".
يعزز هذا ملاحظة سجلتها أكثر من مرة على مدى أكثر من 40 سنة، أنه حين تلتقي مسؤولا جزائريا (لا يزال في السلطة أو أصبح خارجها) رأسا لرأس يقول كلام الحق حول الحقوق المغربية الترابية، لكنه حين يخرج للتصريح العلني يقول عكسه تماما.
هل هو الخوف من سطوة الحكم ببنيته العسكرية هناك؟
الأمر في الواقع أعمق من ذلك.
علينا أن ندرك تحليليا بأدوات التاريخ وعلوم السياسة أن ما يمكن وصفه إجرائيا ب "الجماعة البشرية الجزائرية" كإنسية وليدة بمرجعية "القومية الوطنية الجزائرية" تعيش لحظة تاريخية لشرنقة التحول والميلاد غير مسبوقة منذ 100 سنة، تماما مثل نبتة مقاومة تسعى بجهد الميلاد أن تخترق غلالة الأرض لتبرز إلى شمس الحياة، دون أن تدرك لربما فاتورة ذلك، حيث إنها طبيعيا في تبرعمها وخروجها تجرح الأرض وتنجرح هي أيضا. أي أن لكل ميلاد مماثل بحساب خطو التاريخ قدر فاتورة ألمه الخاص. والحكمة في لحظات تأسيسية مماثلة هي أن تدرك تلك "الجماعة البشرية" الساعية لاستحقاق "قومية وطنية" أن ألمها ذاك هو من ناموس طبيعة الميلاد وحركة التاريخ وليس بفعل متعمد لفاعل خارجي متوهم.
ليس اعتباطا أن ثابتا مركزيا مثيرا يحضر دوما في الخطاب هناك هو "الحكرة"، بكل ما يفرضه ذلك على ذكاء الوطنية الجزائرية من واجب الإنتباه لمزالق "وعي شقي" مماثل. كما لو أن "الذات الوليدة" تلك ترى إلى "العالم" كخصم وليس كشريك، وهذا امتحان وجود كبير يخاطب فطنة "الوعي القومي الجزائري".
ظلت النخب الغالبة هناك لسنوات منذ تأسيس الجمهورية الأولى سنة 1962، يحكمها منطقان مركزيان:
- أولا، انتصار الوعي البدوي (ثقافة) الفلاحي (بنية إنتاج) التقليدي (هوية)، عبر شرعية بندقية التحرير على كل ما تراكم من نخب سياسية حزبية مدينية (وعيا) تجارية وعمالية (بنية إنتاج) حداثية (ثقافة). ذلك أن المنتصر الذي خلق السلطة من العدم للدولة الجديدة هو الجيش كبنية شعبية قاعدية وليس الحركة الوطنية السياسية.
لو شئنا وضع رسم بياني لذلك لقلنا إن "هواري بومدين" انتصر على "مصالي الحاج" وعلى "محمد العزيز جسوس" وعلى "فرحات عباس". أي أن ثقافة انتصرت على ثقافة.
- ثانيا، فورة ميلاد يقين "القوة الإقليمية" استنادا على خطاب "شرعية تحررية" كرأسمال لا مادي يكون قنطرة عبور لخلق حضور مؤثر ضمن حسابات العلاقات الدولية (زمن الحرب الباردة طبعا)، يحول "الدولة الوليدة" إلى ما وصف جزائريا ب "مكة أحرار العالم". مما كانت نتيجته التصادم طبيعيا مع طموحات جوارها الإقليمي شرقا وغربا.
كانت النتيجة هي تبلور توجهين داخليين بالجمهورية الجزائرية الأولى تلك:
- توجه النخبة الحاكمة في بناء الدولة التي ترى أن لها شرعية نضالية (بندقية التحرير) تمنحها سلطة وصاية مطلقة على المجتمع (الحزب الوحيد/ الرأي الوحيد)، وأن دورها التاريخي الأخلاقي هو "بناء نموذج تنموي من فوق" بوهم امتلاكها ل "الوعي التاريخي" الذي لا تستطيع العامة إدراكه. فأصبحت السلطة غير قابلة للشراكة أو التقاسم مع أي كان (أطروحة تحليلية هامة أنجزها حول ذلك الباحث الفرنسي روني غاليسو منذ سنوات). وأن المخططات تصدر من فوق سواء تعليمية أو صناعية أو فلاحية أو أمنية التي فشل أغلبها عمليا، بالشكل الذي أدى إلى بروز أسماء دون غيرها في هذا المجال (نموذج عبد السلام بلعيد مهندس مغامرة التصنيع بالجزائر الذي بقي وزيرا لها لأكثر من 10 سنوات، توجها بإصداره كتابه الشهير "le hazard et l’histoire – المصادفة والتاريخ" سنة 1990).
- ميلاد جيل جديد من شبيبة الجزائر فتحت أمامه كراسي الدراسة والتعليم أن يركب مفاوز التعبير عن الذات من خلال خطاب الممانعة (ثقافيا وهوياتيا)، ذهب في مفارقة تاريخية وسوسيولوجية مثيرة في اتجاهين متعارضين (بل متضادين)، اتجاه ماركسي شيوعي (اتحاد طلبة الجزائر) واتجاه أصولي محافظ (بتأثيرات إخوانية ووهابية وشيعية إباضية بالتقاطع مع موروث بنية الزوايا الدينية القديمة نموذجها الأبرز كان بمنطقة القسنطينة شرقا وبمنطقة تلمسان غربا).
- أنه تبلور مشروعان داخليان على مدى ثلاثين سنة (1962 – 1990) شبه متضادين: مشروع السلطة ومشروع المجتمع. ما يجمع بينهما في العمق هو يقين "الحق في قومية وطنية جزائرية" غير مسبوقة تاريخيا، كل على طريقته وكل بترسانته الخطابية التعبيرية. وأن التصادم بين المشروعين هو الذي أفضى إلى ما أصبح يعرف ب "العشرية السوداء" (1992- 2002). مهم هنا العودة إلى العديد من المراجع الجزائرية الرصينة لفهم سياقات ما وقع، ضمنها كتابات المؤرخ الجزائري المرموق محمد حربي وكتابات الدكتور عبد الحميد براهيمي (خاصة كتابه "في أصل الأزمة الجزائرية" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية).
"القومية الوطنية الصدامية" كتوجه جزائري
في علوم السياسة هناك دوما إشارة إلى توجهين كبيرين في أشكال التدبير وأشكال العلاقات الدولية: هناك منطق الهيمنة وهناك منطق الشراكة. وأن اختيار واحد من التوجهين يأتي من الثقافة السياسية التي يصدر عنها صاحب القرار التدبيري الإستراتيجي في هذا البلد أو ذاك. فكلما كانت النظم الحاكمة ديمقراطية، تعددية، ليبرالية، حقوقية كلما انتصرت أكثر لمنطق الشراكة والتعاون. وكلما كانت النظم الحاكمة شمولية عسكرية، تحكمية، كلما انزلقت صوب منطق الهيمنة.
طبيعة بنية السلطة بالجزائر كما تأسست منذ 1962، تجعلها موقنة بممارسة حق الهيمنة ضمن مجالها الإقليمي. بل وأن توظف ذكاءها كله في اتجاه خلق أسباب ذلك التوجه على مستوى الخطاب (المظلومية والنضالية) وعلى مستوى التدبير (سياسة المحاور الإستقطابية). بالتالي، فإنه ما لم ينتصر الخيار المؤسساتي الديمقراطي داخليا بالجمهورية الجزائرية لن يكون هناك من سبيل حتى الآن لانتصار قناعة منطق الشراكة إقليميا لدى بنيتها الحاكمة. هنا التشاؤم المقلق من طبيعة السلطة الحاكمة بقصر المرادية.
بالتالي يحق التساؤل:
من الذي تغير في مجالنا المغاربي والشمال إفريقي، هل المغرب أم الجزائر؟
إن الحقيقة القائمة اليوم مغاربيا هو أن الذي تغير هو المغرب، كونه وظف ذكاءه الوطني داخليا لإنجاز تجاوز تدبيري مؤسساتي رسخ فيه تحولا بشروط دفتر تحملات دولية لمنطق السوق العالمي. وأنه تحول يرى فيه البعض بداية ل "انتقال ديمقراطي" ويطمح الكثيرون عن حق أن يصبح "تحولا ديمقراطيا"، كانت من نتائجه نوع من "الكادراج" للعبة السياسية المؤسساتية داخله حققت تناوبين حكوميين حتى الآن، ورسخت أكثر مجتمعيا التربية التدافعية على التغيير بأساليب "السلم الاجتماعي" و "التغيير الديمقراطي السلمي". وأنه حقق ذلك ضمن أفق استراتيجي ترجم تغيرا في "عقل الدولة" يمارس السياسة ضمن "خطة طريق" محددة المنطلقات ومستوى الإمكانيات ومدركة بوضوح لمقاصد الوصول كنتائج بمنطق "حسابات الدولة".
هذا التغير المغربي هو الذي لم تقبله بنية السلطة بالجزائر حتى الآن. ربما لم تستوعبه أو لا تريد أن تتحمل نتائجه الملموسة في الواقع الملموس.
بصيغة أدق إن نخب الجمهورية الجزائرية الأولى لا تريد إدراك أن منطق التاريخ إقليميا تغير، وأنها ملزمة بتجاوز ذكي بما يحقق منطق الشراكة في مجالنا الشمال غرب إفريقي.
المقلق أكثر ربما حتى الآن، هي أنها تعي جيدا أن مصالحها القومية العليا كدولة كما تراها بعين 1962 مهددة، لكنها لا تريد تحقيق التجاوز عبر تغيير منهجية تدبيرها للأمور بأفق استراتيجي جديد.
إن التحدي اليوم هو أن يتحقق التغيير ذاتيا من داخل بنية "عقل السلطة" بالجزائر، لأن الواقع المحيط إقليميا ودوليا هو الواقع لا يرتفع. واقع أن عالم اليوم هو عالم منطق الشراكة لا عالم منطق الهيمنة (إقليمية أو غير إقليمية). وأن المغرب تغير والسوق العالمية تغيرت والنخب الإفريقية تغيرت.
نعم تغير المغرب (بكل ما لا يزال يكبله من تحديات وأعطاب، ميزته فيها أنه يتحرك غير جامد، يخطئ وقدره التاريخي أن يتعلم ويتجاوز). وأن الدور على الجزائر أن تتغير بخطو التاريخ ك "قومية وطنية" جديدة غير مسبوقة ل "الجماعة البشرية الجزائرية"، لأن أخطر ما يتهددها اليوم هو "الجمود".
لنطرح السؤال الآخر الجدي:
هل يحب الجزائريون المغرب؟
نعم وبصدق كبير. وهم موقنون أن الضفة الوحيدة التي لن يأتيهم منها شر أبدا هي الضفة المغربية.
الكرة هناك إذن عند "عقل الدولة" في الجمهورية الجزائرية الأولى، الذي عليه أن ينتصر في مباراة الأمل من أجل مجال شمال غربي إفريقي تكاملي، تشاركي.
ليس عيبا أن نتعلم من بعضنا البعض. فكل تجاوز تاريخي يتطلب تضحيات واجبة.