في بلد لم يتخلص بعد من شبح الفصل العنصري رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على نهايته الرسمية، تبرز جنوب إفريقيا كمختبر اجتماعي وسياسي معقد، حيث تتصادم سرديات الضحية والجلاد، وتتنازع الذاكرة الجماعية بين واجب العدالة التاريخية ومخاطر إنتاج تمييز جديد في ثوب مختلف. ففي خضم هذا المشهد، تتنامى في بعض الأوساط، داخليًا وخارجيًا، روايات عن تمييز ضد البيض، تصل حدّ الحديث عن “إبادة بطيئة”، وهي مزاعم تحولت إلى مادة سياسية وإعلامية مشتعلة، لكنها غالبًا ما تفتقر إلى الأسس الموضوعية التي يمكن أن تصنفها ضمن سياسات ممنهجة للدولة.
إن الأرقام والمعطيات المتوفرة حتى مايو 2025 تشير إلى أن ما يقع للبيض من مضايقات أو اعتداءات يظل في خانة الحوادث المعزولة لا في إطار منظومة تمييزية شاملة. فبعض الحوادث، مثل الاعتداءات التي طالت ممتلكات بيضاء خلال أعمال شغب في كولينغي، أو التصريحات العنصرية التي صدرت عن مسؤولين مثل فيلافي خومالو، تثير القلق بلا شك، لكنها لا تمثل تيارًا سياسيًا ممنهجًا أو سياسة دولة. بل إن المؤسسات القضائية الجنوب إفريقية تعاملت مع هذه الوقائع بالحزم اللازم، كما حدث في إدانة تصريحات خومالو، أو في حكم المحكمة الصادر في فبراير 2025 الذي رفض الاعتراف بمزاعم “الإبادة البيضاء” واعتبرها أوهامًا لا سند لها، رافضًا تمرير وصية موجهة إلى جماعة متطرفة تدّعي الدفاع عن البيض.
ورغم تنامي هذا الشعور بالإقصاء في أوساط بعض البيض، خاصة في ظل سياسات إصلاحية مثل قوانين التوظيف التمثيلي أو نزع الملكية لأغراض العدالة الاجتماعية، إلا أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي يروي قصة مختلفة. فالبيض، الذين يمثلون حوالي 7% من السكان، لا يزالون يسيطرون على ما يقارب 72% من الأراضي الزراعية، حسب تدقيق 2017، كما أن معدلات تعرضهم للجريمة لا تفوق المعدلات العامة، ما يضعف فرضية التمييز الممنهج. واللافت أن هذه الامتيازات الاقتصادية المتبقية، والتي تُعتبر من مخلفات نظام الأبارتايد، ما زالت تشكل مصدر قلق وتوتر لدى الأغلبية السوداء التي لم تر بعد ثمار التحرير تتجسد في واقعها المعيشي.
غير أن سياسات العدالة التصحيحية، مهما كانت مشروعيتها الأخلاقية والتاريخية، قد تُنتج آثارًا عكسية حين يُنظر إليها كعقاب جماعي أكثر منها كإصلاح إنصافي. فتصريحات شخصيات مثل دونالد ترامب، الذي قرر في فبراير 2025 قطع المساعدات عن جنوب إفريقيا بدعوى حماية الأقلية الأفريكانية من “تمييز عنصري رسمي”، تكشف مدى قابلية هذا الملف للتوظيف السياسي الخارجي، خاصة في ظل غياب إجماع داخلي حتى داخل صفوف البيض حول خطورة الوضع. فقد رفضت غالبية المنظمات البيضاء الكبرى عروض اللجوء السياسي أو إعادة التوطين، في رسالة ضمنية تؤكد أن الجنوب الإفريقي الأبيض لا يعيش تحت تهديد وجودي فعلي.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن جيل “ما بعد الفصل العنصري” يظهر انقسامًا صارخًا في الرؤية والمواقف. ففي حين ينادي بعض الشباب الأسود بضرورة المساءلة الرمزية والمادية للمستفيدين السابقين من النظام العنصري، يتشبث كثير من البيض بسردية الاستهداف، خصوصًا عندما يشعرون بالإقصاء من المناصب أو المشاريع بدعوى التمثيل العرقي. هذه التوترات تنعكس بشكل واضح في استطلاعات الرأي، مثل تلك التي أجراها “أفروباروميتر”، والتي بيّنت تزايد الإحساس بالتمييز لدى الأقليات، ومنها البيض، منذ عام 2011.
لكن الحقيقة تظل أكثر تعقيدًا من أن تُختزل في ثنائية الضحية والجلاد. فجنوب إفريقيا، منذ انتهاء الأبارتايد، انخرطت في مسار طويل ومضنٍ لإعادة هندسة الهوية الوطنية وتفكيك بنى التمييز التاريخية. غير أن هذا المسار تعثر مرارًا بسبب ضعف السياسات العمومية، واستمرار الفجوة الاقتصادية، والتوظيف السياسي للملف، ما جعل البعض يشعر بأن العدالة الانتقالية تحولت إلى ساحة لصراعات جديدة بدل أن تكون جسراً للمصالحة الشاملة.
وبينما لا يمكن نفي وجود مظاهر عنصرية ضد البيض في بعض الأوساط، إلا أن الادعاء بوجود تمييز ممنهج أو إبادة خفية يبقى طرحًا مبالغًا فيه لا تؤيده لا الوقائع ولا الأحكام القضائية ولا حتى المؤشرات الاقتصادية. فالنقاش الحقيقي لا يجب أن يدور حول ما إذا كان البيض ضحايا لنظام جديد، بل حول كيف يمكن خلق عقد اجتماعي جديد يعترف بجرائم الماضي، ويؤسس لمجتمع لا يعيد إنتاج التهميش تحت يافطة العدالة، ولا يمنح امتيازات لا تُستحق بحجة الذاكرة.
إن جنوب إفريقيا اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الاستقطاب، بل إلى شجاعة سياسية ومجتمعية لإعادة تعريف العدالة بطريقة تتجاوز الانتقام، وتعترف بالمسؤوليات الجماعية، دون أن تُفرغ مفاهيم المساواة من محتواها. والرهان الأكبر هو تحويل هذه البلاد من نموذج للتمييز العنصري إلى مختبر عالمي للمصالحة العاقلة التي لا تنحني لا للشعور بالذنب ولا للهواجس الطائفية.