أعترف أنني بقيت دوما أحمل ذكرى غير مريحة عن آخر زيارة لي إلى موقع مدينة "شالة" المغربية النابثة بإحدى روابي العاصمة المغربية الرباط شرقا. ففي آخر زيارة لي إليها سنة 1988 (أي منذ 37 سنة)، خرجت منها مسرعا بسبب الحالة الرثة المقرفة والمؤسفة التي كانت عليها آثارها التاريخية العريقة والقديمة. كانت عبارة عن خراب ومزبلة مفتوحة على السماء..
شاء القدر الجميل أن يُبتَلى أصغر أبنائي مثلي بالتاريخ، وإلى إلحاحه رفقة والدته يعود الفضل في أن أزور مجددا هذه المدينة التاريخية المغربية النادرة صباح البارحة.
أصبح المشهد مختلفا تماما (علامة من بين علامات أن أمورا مهمة تتغير وتتبدل بالمغرب تدبيريا أقله منذ سنة 2000). عادت شالة إلى سيرتها التاريخية القديمة بكل مفاتنها التاريخية المتميزة والنادرة. بل أصبح التجوال فيها، بكل النظافة الضاجة في كل أطرافها، متعة سفر في الأمكنة والتاريخ والزمن، ومتعة عين (وبدن أيضا) لأنه عليك قطع كلمترات من المشي لساعتين ونصف الساعة بدون توقف حتى تتمكن من زيارة كل أركان "شالة". علما أن أسباب الراحة مضمونة من خلال ممشى مريح خشبيا وكذا توفير بيوت الراحة ومقهى ومطعم.
أهمية مدينة شالة المغربية آتية من أنها المدينة الأثرية المغربية الوحيدة التي تتراكب فيها آثار ثلاث حضارات عبرت بالمغرب هي الفينيقية والرومانية والإسلامية، حيث يتجاور حجر الميناء النهري القديم منذ الإنزال الفينيقي (الذي أطلق عليها إسم "سلا")، مع هندسة المدينة التجارية الرومانية بكل عناصرها الكاملة من مسرح وسوق تجار ومعبد (الكابتول) ومحكمة وساحة عمومية (قوس النصر) وشارعين رئيسيين متقاطعين (أطلق عليها الرومان إسم "سالا كولونيا")، مع إقامة ملكية للقائدين الأمازيغيين القديمين التابعين لروما يوبا الثاني وابنه بطليموس. ومما تؤكده مصادر التاريخ المغربية الرسمية أنه كان بالمدينة على عهدها الروماني سور طويل ممتد حتى شاطئ المحيط الأطلسي عند مصب نهر أبي رقراق (تصل مسافته تقريبا أربع كلمترات) يحميها من الغزاة لأربعة قرون كاملة.
سيتخدها الموحدون مركزا عسكريا لهم حيث بنوا سورا عاليا لا يزال قائما إلى اليوم. لكنهم تجاوزوها وتخلوا عنها حين بنوا مدينة الرباط عند مصب نهر أبي رقراق غربا على ضفاف المحيط الأطلسي ولا تزال آثارهم وأبوابهم وأسوارهم التاريخية بمدينة الرباط قائمة إلى اليوم (أهمها مسجد صومعة حسان التي كانت في زمنها قبل الزلزال المدمر لسنة 1755، أي زلزال لشبونة الشهير، أعلى صومعة في العالم رغم عدم اكتمالها زمن بناء المسجد سنة 1195 ميلادية، أي أن عمر المسجد والصومعة اليوم هو حوالي 825 سنة).
لكن من سيمنح "شالة" إضافتها المغربية الإسلامية المتميزة هي دولة المرينيين، حيث اتخدوها موقعا لقبورهم الملكية وبنوا بها مسجدا كبيرا ومدرسة ببيوت إقامة للطلبة ومرحاضا وموقع وضوء وحماما كبيرا بقباب ثلاثة إلى جانب الحمام الروماني القديم. مع إنشاء شبكة مياه للشرب والسقي جد دقيقة ومتقدمة هندسيا في زمنها لا تزال تعمل في بعض أجزاءها إلى اليوم. مثلما أضافوا سورا جديدا لها بأبواب ثلاثة كبرى من أشهرها "باب الجنة" وكذا "حديقة الأبراج" التي تضم أكثر من 80 نوعا من النباتات والأشجار المثمرة. قبل أن تصبح ضريحا لواحد من أشهر سلاطين المرينيين هو أبو الحسن المريني المتوفى يوم 24 ماي 1351 ميلادية. وزوجته الشهيرة شمس الضحى والدة ولي عهده السلطان بعده أبوعنان المريني المتوفاة يوم 18 شتنبر 1349.
بالتالي يعود تاريخ إنشاء مدينة "شالة"، التي تتراكب فيها داخل نفس الأسوار حضارات الفينيقيين والرومان والمرينيين، إلى القرن السابع قبل الميلاد (أي أن عمرها إلى اليوم هو حوالي 2750 سنة).
الجميل أيضا، أن تجد نفسك مضطرا للوقوف في صف طويل قبل التمكن من اقتناء ورقة الدخول (35 درهما للمغاربة مع آلة مصاحبة للشرح تضعها على أذنك. و70 درهما للأجانب). وأن تكتشف أن عدد زوار الموقع كبير جدا نصفه مغاربة ونصفه سياح أجانب من مختلف الجنسيات.