شهدتُ قبل أيام قليلة برحاب إحدى جامعاتنا مؤتمرا ليس كالمؤتمرات وألقيت السمع إلى محاضرات ليست كالمحاضرات. فلا جرم أن بلغت دهشتي مبلغا ما بلغته قط في كل ما شهدته من ندوات ومؤتمرات وطنية ودولية هي بالمئات خلال أزيد من أربعين عاما. هو مؤتمر أريدَ له أن يكون مؤتمرا دوليا لكن نصف المحاضرين فيه قدموا من بلد مشرقي واحد وثلثهم وزيادة من المغرب وخمسة محاضرين من خمسة بلدان عربية أخرى، فهو أقرب إذن إلى مؤتمر عربي منه إلى مؤتمر دولي. وإلا فأين علماء إندونيسيا وماليزيا وأفغانستان وباكستان وإيران والسنغال والنيجر مثلا فضلا عن أقطار أوربية وأمريكية وغيرها ؟ وأما البحوث المدرجة فقد اتسمت على الغالب بغير قليل من العموميات والبديهيات والمختلفات. وأما الجلسات الحضورية السبع فقد كانت تتعاقب الواحدة تلو الأخرى بسرعة البرق. كان يُطلب من المحاضرين أن يعرضوا أبحاثهم في خمس دقائق على الأغلب، فما أن يبسمل الواحد منهم ويحمدل حتى يأخذ في الثناء والشكر هذا على الجهة المنظمة وذاك على البلد الذي ابتعث منه وثالث يدعو لهذا الحاكم ورابع لذلك الأمير وأولياء النعمة عليه وعلى أمثاله، وما يلبث المحاضر أن يَعرض لموضوع البحث وعناوينه في عجالة لينهي كلامه كما بدأ بالشكر والثناء على أصحاب الفضل. فهل نعجب بعد هذا كله أن ينقضي الوقت بين ثناء المسيرين على المحاضرين وشكر المحاضرين للمسيرين والمنظمين بكلمات "عطرة" وبنبرات مكررة ومملة وبتبجيل خادع يزيد المتوهم وهما على وهم حتى ليظن أنه وحيد عصره وفريد دهره. ولطالما تساءلت وأنا أتفرج على هذه المشاهد العجيبة والغربية مشدوها من هول ما أرى وأسمع : تُرى ما الغرض من مؤتمر هذه أحواله ووقائعه ؟ وما جدوى أن يقطع الواحد المسافات الطوال عبر الطائرة وأن تنفق الأموال الطائلة ليجتر كلاما معادا مكررا بين ثناء هنا وشكرا هناك ؟
كنت أتطلع إلى وجوه المؤتمرين بين الفينة والأخرى فأجد منهم المكب على هاتفه والهائم الذاهل والمطرق الواجم، وإذا بالحاضرين يغادرون القاعة وحدانا وجماعات بعد أن كانت مكتظة عن آخرها في جلسة الافتتاح. وأخيرا اُذن لجلسة المناقشة أن تفتح في آخر الظهر وإذا بلجنة التنظيم تحصر المداخلات في خمس لا سادس لها. تحدث أول المتحدثين ففهمت كل شيء. صاحبنا هذا كان قد أصر على أن يُعقب على محاضر شاب قبل أن تنقضي جلسة العروض كمن لا عهد له بآداب المؤتمرات لولا أن صدته مُسيرة الجلسة بأدب واحترام. كان الباحث قد ذكر أن بلدين اثنين في العالم لا غير يتخذان الإسلام مصدرا رئيسا للتشريع، والبقية الباقية تجعل الشريعة في المقام الثاني أو الثالث بعد المواثيق الدولية والأعراف الاجتماعية. وبدل أن يبرهن المتدخل على اعتراضه بما يلزم من الشواهد والأدلة راح يكيل التهمة تلو الأخرى لأحد البلدان الإسلامية ليخلص بأن بلد الباحث الشاب وبلده هو أوثق صلة بالإسلام من غيره. ففهمت على التو أن المتحدث وأضرابه إنما جاؤوا مسخرين لدعاية رخيصة لا محل لها في مؤتمر يروم النظر التكاملي بين علوم الإنسان وعلوم الوحي لا بث الفرقة والشقاق بين المسلمين واستعدائهم على بعضهم. وكان علي أن أتدخل لأسأل المؤتمرين : كيف أن الدعوة إلى تكامل علوم الإنسان وعلوم الوحي قد مضى عليها أكثر من نصف قرن ولا زلنا نُبدئ ونُعيد بلا اجتهاد ولا تجديد ؟ ألم يأن لنا أن نراجع مراجعة نقدية مآل الشعارات التي رفعت لتأصيل العلوم الإنسانية تعريبا وأسلمة وتوطينا حتى نتبين نتائجها ونجني ثمارها ونستخلص منها الدروس والعبر؟ أجل لقد كان من ثمار رفع شعار التكامل بين علوم الإنسان وعلوم الوحي أن تنبه علماء النفس والاجتماع والإناسة والتاريخ واللسنيات وغيرها من علوم الإنسان إلى أن لهم إرث حضاري مشهود يستوجب استلهامه والبناء عليه بناء منهجيا ينضبط بضوابط العلم ومقتضياته بدل إهماله وغض الطرف عنه. وما عدا ذلك فإن جل الكتب التي ألفت في هذا الشأن لم يكن لها من الإسلام إلا الاسم. ولذا لا بد أن يُراجع ما نشر من مؤلفات في هذا الشأن لنقف على مقدار الجدة والأصالة فيها ومبلغ الفائدة العلمية المتحققة منها.
وأما على صعيد التنظيم، فمن حقنا أن نسأل : هل يُعقل أن تُعرض أربعة وخمسون بحثا في يوم ونصف ويضيق الوقت المخصص لجلسة المناقشة العامة ليدلي المشاركون بدلائهم فيتبادلون الرأي والمشورة والأخذ والرد والنقد والتحاور والتناظر ؟ أليس نجاح المؤتمر إنما هو رهين بمشاركة الحاضرين وتجاوبهم لا بالكثرة الكاثرة من المحاضَرات والمحاضرين ؟ لقد شاركتْ في المؤتمر ثلة من الباحثين الذين تشهد بحوثهم بطول الباع في مجالات اختصاصهم ولولا كثرة العروض والسرعة القياسية التي تعاقبت بها الجلسات لكانت جلسة المناقشة فرصة لا تعوض تفيد جمهور الطلبة الحاضرين وتمكن الباحثين منهم من المناقشة والتناظر والتباحث وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه.