لم ينج التعليم العالي الأمريكي من مخالب الوحش السياسي الأسطوري، ذلك الوحش الذي لا يكتفي بإعادة تشكيل السياسة، بل يسعى إلى إعادة قولبة الوعي نفسه. ترامب، الذي اعتاد أن يفرض رؤيته على العالم بالقوة والمال، لم يكن ليسمح أن تظل غزة حاضرة في ذاكرة الطلاب أو أن تكون جزءا من خطابهم، أو حتى شبحا يطاردهم في أروقة الجامعات. كان لا بد أن تمحى، لا فقط من الخرائط، بل من العقول، من اللغة، من الحقائق المسموح بقولها.
في مشهد يجسد تداخل السياسة بالمال داخل المؤسسات الأكاديمية، شهدت جامعة كولومبيا في نيويورك منعطفا حاسما تحت وطأة ضغوط إدارة ترامب. لم تكن هذه الضغوط عابرة أو مؤقتة، بل زلزال أكاديميا كشف هشاشة استقلال الجامعات أمام النفوذ السياسي، خاصة عندما تتداخل المصالح المالية مع المبادئ الفكرية، فيصبح التعليم بين المطرقة السياسية والسندان المالي.
أُجبرت جامعة كولومبيا، التي لطالما اعتبرت معقلا للنقاش الحر والتعددية الفكرية، على تبني سلسلة من التعديلات الأمنية والأكاديمية المثيرة للجدل، مثل حظر ارتداء الأقنعة(إجراء يُفسَّر على أنه محاولة لخنق التظاهرات) إضافة إلى تشديد الأمن الداخلي ومراقبة الأقسام الأكاديمية المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط. لم يكن هذا التغيير خيارا أكاديميا، بل جاء نتيجة تهديد مباشر بقطع 400 مليون دولار من التمويل الفيدرالي، سلاح استخدمته إدارة ترامب بفعالية لفرض رؤيتها على الحرم الجامعي. فهل أصبحت الحرية الأكاديمية مجرد سلعة تُباع وتُشترى؟
يثير هذا التحول أسئلة جوهرية حول مستقبل الجامعات في ظل التدخلات السياسية. فمن يفترض أن تكون مؤسسات للفكر الحر والحوار، باتت مشروطة بالخضوع لإملاءات السلطة. الأكاديميون لم يتأخروا في إدانة هذه القرارات، معتبرين إياها انتهاكا صارخا لاستقلال المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة.
اللافت أن غزة كانت الشرارة التي فجّرت هذه الأزمة، إذ اندلعت الاحتجاجات الطلابية داخل جامعة كولومبيا رفضًا للحرب الأخيرة على غزة، ما حولها إلى ساحة معركة سياسية بين التيارات المحافظة واليسارية في المجتمع الأمريكي. ترامب، الذي أتقن توظيف الخطاب الشعبوي، استغلّ هذه الأحداث لترسيخ صورته كحامي "القيم الأمريكية" في مواجهة ما وصفه بـ"التطرف الأكاديمي والميول المعادية لإسرائيل" داخل الجامعات.
هذا المشهد يعيد رسم صورة ترامب كوحش سياسي لا يزال يمسك بخيوط اللعبة الأمريكية. لكن هذه المرة، لم يكن سلاحه خطابات نارية أو تغريدات مثيرة، بل التمويل الفيدرالي كسيف مسلط على رقاب الجامعات. وهنا يبرز السؤال الأكبر: هل يتحول التعليم العالي في الولايات المتحدة إلى ساحة جديدة للصراع السياسي، حيث تُشترى الولاءات وتباع المبادئ؟
غزة ليست مجرد مدينة صغيرة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، بل هي ذاكرة مقاومة، بوصلة أخلاقية تختبر الضمير العالمي. ولهذا، فإن الاحتجاجات الطلابية في جامعة كولومبيا لم تكن مجرد موقف سياسي، بل كانت إعلانا بأن غزة لن تمحى، لا بالحديد والنار، ولا بالقوانين والتمويلات المشروطة.
لكن ترامب، الذي يدرك أن الفكر هو السلاح الأخطر، لم يكن ليترك الساحة بلا معركة. الإجراءات التي فرضت على جامعة كولومبيا لم تكن مجرد "إصلاحات أكاديمية"، بل عملية إعادة قولبة قسرية للوعي الجامعي. حظر الأقنعة، تشديد الرقابة، مراقبة الدراسات المرتبطة بالشرق الأوسط... كلها أدوات لمحو أي أثر لغزة داخل الجامعة، لمنع الفكرة قبل أن تتحول إلى قناعة، وقبل أن تصبح القناعة موقفا لا يمكن التراجع عنه.
وكما في الحكايات الأسطورية، حيث يعود الطاغية مرارا ليحاول إعادة تشكيل العالم وفق صورته، عاد ترامب ليترك بصماته في مؤسسة أكاديمية لم تكن خاضعة تقليديا للسلطة التنفيذية. لكنه، كغيره ممن حاولوا إسكات الأفكار، يواجه حقيقة تاريخية: الأفكار التي تُضطهد تزداد حدة، والوعي الذي يحاصر يبحث عن طرق جديدة للانفلات من قيوده.
لم تعد الجامعات مجرد مؤسسات تعليمية، بل تحولت إلى ساحات معارك سياسية، حيث يرسم مستقبل الفكر الأكاديمي وفقا لميزان القوى لا المبادئ. فهل سنشهد مزيدا من الخضوع، أم ستجد الجامعات القوة لمواجهة المخالب التي تحاول افتراس استقلالها؟
إن كانت الجامعات تجبر على الصمت، فمن يرفع الصوت؟ إن كان الفكر يُشترى بالمال، فمن يحرر العقل من قيوده؟
غزة ليست مجرد مدينة، إنها اختبار دائم للإنسانية. ومن لك يا غزة، إن كان العالم قد باع ذاكرته؟ لك الأحرار الذين لا يشترون، لك العقول التي ترفض أن تنسى، لك الذين يدركون أن الخرائط السياسية قد تتغير، لكن الجغرافيا الأخلاقية تظل ثابتة: حيث يكون الظلم، يكون هناك من يقاومه.