السبت 22 فبراير 2025
مجتمع

شهر بعد شهر: سجلاتُ "الحملِ" من خلالِ صورِ الأشعةِ فوق الصوتية

شهر بعد شهر: سجلاتُ "الحملِ" من خلالِ صورِ الأشعةِ فوق الصوتية الدكتور أنور الشرقاوي والدكتور بونهير بومهدي(يسارا)
بقلم د. أنور الشرقاوي بمساهمة د. بومهدي بونهير / طبيبُ متخصص في الراديولوجيا

كان الصباح هادئًا، يغمره ضوء ناعم حين استقبل الطبيب المتخصص في الراديولوجيا في عيادته، امرأةً بعينين متألقتين بوعدٍ لم يولد بعد.

بطنُها لم ينتفخ بعد، لكن داخله كان كونٌ يتوسّع، نجمٌ في طورِ التشكل، وأنا، طبيبُ الأشعة، سأكون الراصدَ لهذا الكوكبِ الذي يتخلق في ظلماتِ الرحمِ، أتابعُ أولى نبضاتِ الحياة تتردد في سائلٍ لا نهائي.

الشهر الأول: ظلالُ مستقبلٍ غامض

كانت صورةُ الأشعةِ الأولى غوصًا في المجهول، شاشةٌ تومض، رحمٌ يبدو كأرضٍ بكر لم تُمسّ، ثم هناك، في العمق، بقعةٌ صغيرة، جيبٌ حمليّ، وعدٌ لم يتجسد بعد.

لم يكن هناك شيء يشبه الإنسان، مجردُ ظلٍ جنيني، حبةُ غبارٍ كوني معلّقة في الفراغ، تنتظر أن تنفجرَ في كوكبةٍ من الأعضاءِ والمشاعر.

الشهر الثاني : نبضٌ من عوالمَ أخر

في الشهر الثاني، ظهر وميضٌ صغير، بالكاد يُرى، نبضةٌ تتسارع، 120… 150 ضربةً قلبية في الدقيقة.

قلبٌ صغير ينبض قبل أن تتشكلَ الملامح، قبل أن تتحددَ المعالم.

أتخيل القدماء وقد رأوا في ذلك دليلًا على قدسية الحياة، أما أنا، الطبيب، فأرى معجزةً ملموسة، يقينًا بأن هذا الكائن ينمو… وأنه سيكون.


الشهر الثالث: يقظةُ الكائنِ المائيّ

على الشاشة، أطرافٌ تلوح كخطوطٍ غير واضحة، رأسٌ يتكون، لكنه لم يتخذ بعدُ شكله البشري.

مخلوقٌ من ماءٍ ونور، يشبه كائنًا أسطوريًا في طورِ التشكل، يسبح في السائلِ الأمنيوسي، يتمايل كسمكةٍ صغيرةٍ لا تدركُ بعدُ اتساعَ العالمِ الذي ينتظرها.


الشهر الرابع: كشفُ الأسرار الأولى

هنا، تلتقيُ المعرفةُ بالبصيرة.

"هل ترغبين في معرفة جنسه؟" سألتُ الأم، فهزّت رأسها مزيجًا من الترقبِ والخوف.

أدرتُ المجسّ، بحثتُ في الأبعاد الرمادية، وظهر الجواب.

ولدٌ… أم بنت؟ هويةٌ كُتبت منذ اللحظةِ الأولى لانقسامِ الخلايا، واسمٌ سيبدأ قريبًا بالتشكلِ في ذهنِ الوالدين.


الشهر الخامس: يدٌ تتحرك

إنه يتحرك!

على الشاشة، كفٌّ صغيرةٌ تُفتح وتُغلق، وكأنها تحاول الإمساكَ بجزءٍ من العالم الخارجي.

ابتسمتُ وقلتُ للأم: "إنه يُحييكِ".

ضحكت، غير مصدقة.

الآن، صار يسمع، يلتقطُ صوتَ أمه، دقاتِ قلبِها، وربما حتى همساتِ الكونِ البعيدة.

الشهر السادس: ملامحُ المستقبل

الأشعةُ التفصيلية هي لحظةُ كشفٍ مقدسة.

الصورةُ تزداد وضوحًا… أنفٌ صغير، شفتان، جفنان مغلقان على أحلامٍ لم تُخلق بعد.

طبعتُ الصورة.

همس الزوج لزوجته متأثرا: "إنه يشبهك!"

ربما، وربما لا. لكن ما هو مؤكد أن الغريبَ صار مألوفًا، واللاشيء صار وجهًا.

الشهر السابع: النجمُ يصبحُ كوكبًا

لم يعد كائنًا مائيًا، صار كائنًا من لحمٍ ودم.

يحتلّ كلَّ فضاءِ الرحمِ، حركاتهُ موجاتٌ تُعيد تشكيلَ الوعاء الذي يحتويه.

أحيانًا، تُظهر لنا الأشعةُ قدمًا، أو مرفقًا، أو ظهرًا ينحني.

هو يعلم، بالفطرةِ، أن الخروج للشمس صار وشيكًا.

الشهر الثامن: ترقبُ العبور

الطفلُ انقلب، رأسُه يتجهُ نحو بوابةِ العالم، مستعدٌ للعبورِ الكبير.

رئتاه لم تتنفّسا بعد، لكنهما تتدربان على استقبالِ هواءِ الحياة.

كلُّ أشعةٍ الآن ليست إلا رسالةً مشفرة، ضربةً على أبوابِ الوجود:

"أنا هنا… أنا أنتظر."


الشهر التاسع: عتبةُ النور

وضعتُ المجسّ جانبًا، نظرتُ إلى الشاشةِ بصمت.

لم يعد هناك شيءٌ جديدٌ نراه.

لقد اكتملتِ القصةُ داخلَ الرحم، ولم يتبقَ سوى الفصلِ الأخير.

بعد أيام، لن يكونَ هذا الكائنُ خيالًا صوتيًا، بل جسدًا، وصوتًا، وصراخًا يمزّقُ هواءَ الصباحِ الأول.

"هذه آخرُ صورة"، قلتُ للأم وأنا أمدّ لها الورقة الرماديةَ الباهتة.

أخذتها بين يديها، واحتضنتها كأنها تحتضنُ طفلها القادم.

راقبتُها وهي تغادرُ العيادة، وأنا أعلمُ أن دوري انتهى…

لكن قصتها، بالكادِ تبدأ.