الاثنين 17 فبراير 2025
كتاب الرأي

يوسف لهلالي: رحل لوبين وبقيت أفكاره في الساحة السياسية

يوسف لهلالي: رحل لوبين وبقيت أفكاره في الساحة السياسية يوسف لهلالي

رحل يوم الثلاثاء الماضي الزعيم التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي، جان ماري لوبين، عن عمر يناهز 96 عامًا، قضى منها ستة عقود في الساحة السياسية الفرنسية. بعض المعارضين له احتفلوا بهذا الموت في ساحة لاريبيبليك بباريس،بغض النظر على الجانب الأخلاقي الواجب تجاه الأموات، اعتقد خصومه  ان الأفكار التي دافع عنها سوف تدفن معه.  لكن يبدوا ان ذلك قمة السذاجة، أفكار لوبين اليوم منتشرة في الساحة السياسية وفي الاعلام الفرنسي بل ان الحزب الذي تركه أصبح يتصدر المشهد السياسي ويمكنه ان يفوز في الانتخابات المقبلة سواء الرئاسية او التشريعية. مات لوبين لكن أفكاره ترسخت بالمجتمع الفرنسي مما يعني ان المعركة معها هي مستمرة. اكثر من ذلك اليمين المتشدد تقوى بأوروبا بما فيها المانيا، واصبح له سندا بالإدارة الأميركية الحالية.

فشل لوبين في الوصول إلى سدة الحكم بباريس، ورغم تأهله إلى الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بفرنسا في أبريل 2002، وشكل ذلك صدمة للمجتمع الفرنسي آنذاك، حيث انطلقت المظاهرات في الساحات العامة احتجاجًا على التقدم الكبير لهذا الحزب الفاشي الساحة السياسية.

رحل لوبين دون أن يحكم، لكن أفكاره اليوم تحكم جزءًا من المجتمع الفرنسي. اليوم، الجميع يردد مفاهيم مثل "الأفضلية الوطنية للفرنسيين"، كراهية الاجانب، الهوية المحلية، نظرية "الاستبدال الكبير" لسكان فرنسا، وغيرها من الأفكار. وكان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي من أبرز السياسيين الذين قاموا بالسطو على أفكار لوبين واسس وزارة للهجرة والهوية. ونتيجة لذلك، تم تداول أفكاره على نطاق واسع في الساحة السياسية الفرنسية، خاصة من طرف اليمين. بل أصبحت اليوم فرنسا تتوفر على قنوات إعلامية تبث أفكاره طوال اليوم، وتهاجم الأقلية المسلمة باسم "اللائكية"، التي لا يفهم معناه جزء كبير من الفرنسيين ومن السياسيين أنفسهم. وأصبح اليمين المتطرف في نسخته العصرية، التي تمثلها ابنته مارين لوبين، يحارب الهجرة والأقلية الدينية باسم "اللائكية".

وبالتالي، فإن معركة جان ماري لوبين الطويلة هي التي مكنته من إخراج اليمين المتطرف من التهميش ليصبح تياره أقوى حزب في الساحة السياسية الفرنسية. ويمكن لزعيمته أن تتزعم الحكم في فرنسا. اليوم، أصبح الجميع يتداول أفكاره من أجل الحصول على أصوات أنصاره، كما فعل نيكولا ساركوزي وحلفاؤه في الحزب الجمهوري. لكن جزءًا من الفرنسيين أصبح اليوم يريد أن يرى في الحكم النسخة الأصلية لليمين المتطرف، بدل النسخة الباهتة التي يقدمها جزء كبير من أقطاب اليمين الفرنسي.

كان جان ماري لوبين خطيبًا محرضًا مثيرًا للجدل في قضايا الهجرة واليهود، ومعاداة الأجانب. ورغم العدد الكبير من القضايا أمام المحاكم، نجح في إخراج اليمين المتطرف الفرنسي من التهميش ليصبح اليوم الحزب الأول في فرنسا. لكنه لم ينجح في تحقيق طموحه بأن يصبح رئيسًا، رغم أنه أحدث مفاجأة في 21 أبريل 2002، عندما كان عمره 73 عامًا، بتأهله للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

انسحب مؤسس الجبهة الوطنية، التي سميت فيما بعد بالتجمع الوطني، تدريجيًا من الحياة السياسية اعتبارًا من عام 2011، عندما تولت ابنته مارين لوبين رئاسة الحزب. فقد أقفلت ابنته أبواب الحزب أمامه، وطردته من مؤسسات الحزب بعد أن اختارت نهجًا سياسيًا مختلفًا يتجنب المواجهة في الحياة السياسية، ويسعى إلى البحث عن موقع قدم في السلطة بباريس. كما منعت ممارسات معاداة السامية وسط أتباعها، واختارت مهاجمة المسلمين باسم "اللائكية" بدلًا من العنصرية الصريحة التي كان ينتهجها المؤسس. في هذه الظروف، ابتعد الزعيم التاريخي للحزب أو تم إبعاده من الحزب الذي تحول من الجبهة الوطنية إلى اسم جديد وهو التجمع الوطني.

وأبعده المرض عن الساحة السياسية بعد تعرضه لعدة انتكاسات صحية. وفي يونيو، كشف تقرير طبي عن "تدهور كبير" في حالته الجسدية والنفسية، مما جعله عاجزًا عن "الحضور" أو "التحضير لدفاعه" في قضية مساعدي نواب الجبهة الوطنية الأوروبيين، التي جرت في باريس بين سبتمبر ونوفمبر.

ظل متشبثًا بأفكاره حتى الأكثر عنصرية حتى وفاته، حتى تلك التي أدين بسببها أمام القضاء، بدءًا بعدم اعترافه بجسامة المحرقة اليهودية وعدم المساواة بين الأعراق، مرورا بالتخفيف من شأن الاحتلال الألماني لفرنسا. بل كان يعبر عن نوع من النوستالجيا لهذه المرحلة وكذلك لتاريخ فرنسا الاستعماري.

وبعد 22 عامًا، بينما فاز حزب التجمع الوطني في الانتخابات الأوروبية، أعطى قرار حل البرلمان الذي اتخذه الرئيس إيمانويل ماكرون، ابنته مارين لوبن، إمكانية انضمام اليمين المتطرف إلى السلطة، وهو حلم ظن أنه تحقق أخيرًا. لكن هذا الحلم تحطم على صخرة "الجبهة الجمهورية". ليغادر الزعيم التاريخي إلى دار الآخرة دون أن يتحقق حلمه في وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في فرنسا، كما حدث في عدد من البلدان الأوروبية. ومع ذلك، ورغم فشله في إيصال هذا التيار إلى الحكم، فقد أخرج هذه العائلة السياسية من التهميش، بل أصبح هناك تسابق على تبني أفكاره في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية.

لذا، فإن المعركة لم تنتهِ مع أفكاره، كما قال زعيم فرنسا الأبية، أحد أشرس الخصوم السياسيين لهذا التيار السياسي. المعركة مستمرة ضد أفكاره، ضد "الكراهية والعنصرية وكراهية الإسلام ومعاداة السامية التي روّج لها". وكما قال بيان قصر الإليزيه حول  هذا الرحيل، "فإن أفكاره ستظل يحكم عليها التاريخ".