توفي صباح السبت 4 يناير 2024، بالرباط الحقوقي محمد السكتاوي والمدير العام لمنظمة العفو الدولية – فرع المغرب عن عمر 73 سنة، بعد صراع طويل مع المرض. ويوارى الراحل الثرى بمقبرة الشهداء بالرباط بعد صلاة العصر بحضور أفراد عائلته ورفاقه عدد من الفعاليات الحقوقية والسياسية والجمعوية.
وقال الفاعل الحقوقي والجمعوي عبد الإله بنعبد السلام في كلمة تأبين رفيقه بهذه المناسبة الحزينة " غادرنا هذا الصباح المناضل التقدمي الكبير والرفيق العزيز محمد السكتاوي المدير العام لمنظمة العفو الدولية-فرع المغرب بعد مقاومة قوية حتى لايتوقف نبض قلبه الذي مكنه من كل هذا الحب العميق للوطن وقضايا ه وكل قضايا الشعوب العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية"
وأضاف " غادرنا ونحن في الحركة الحقوقية في أمس الحاجة لإنسان من عيار رفيع في البدل والعطاء والتضحية" وقال " فلك يا محمد كل التحايا والتقدير والاحترام ولزوجتك الأستاذة الكريمة لطيفة وابنتك ميسون وكافة أسرتك في المنظمة والحركة التقدمية المغربية، صادق العزاء والمساواة"
ويجمع كل من عرف الراحل محمد السكتاوي على اما كان يتمتع به من خصال رفيعة قيد حياته، حيث ظل الراحل طوال حياته مناضلا ومدافعا عن حقوق الانسان وقضايا التربية. وبقي الراحل الذي ازداد سنة 1952، بمدينة القصر الكبير وفيا لرسالته الحقوقية، ولمبادئه الديمقراطية، وحضوره الفاعل والوازن في مختلف الأنشطة الحقوقية الإنسان.
الراحل السكتاوي كان من بين الفعاليات التي ساهمت في حفل تقديم مؤلف " محمد الحيحي .. ذاكرة حياة"للصحافي جمال المحافظ والفاعل الحقوقي عبد الرزاق الحنوشي، ضمن البرنامج الثقافي للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط في نسخة 2024 والذي كان المرحوم من بين المساهمين في هذا الكتاب بشهادة اختار لها عنوان" محمد الحيحي: القدوة والمثال". وفما يلي هذه الشهادة، وهي تحية خاصة عطرة لروحه الطاهرة :
حينما يفتح الباحث سجل تاريخ المغرب الحديث لمعرفة مساراته وأحداثه ورجالاته، لابد أن يصادف حالة إنسانية فريدة من نوعها ، متميزة في روحها، متفردة في هويتها، هذه الحالة اسمها محمد الحيحي كانت لها بصمة خاصة وسمت حياتنا السياسية والثقافية بطابع خاص لا يزول، عرف المغرب رجالات كبارا قادوا حركة التحرر الوطني وبرزوا كزعماء على المستوى الوطني والإقليمي والدولي وصاروا رموزا في القارات الثلاثة التي عرفت نير الاستعمار والاضطهاد وطمس الهوية أمثال الملك محمد الخامس وعلال الفاسي والمهدي بنبركة.
وإذا كان هؤلاء استغرقهم النضال السياسي والتحرري وبناء الدولة الوطنية المستقلة، فإن محمد الحيحي اختار هدفا نبيلا آخر سعى إليه وركز عليه وأفنى حياته من أجل تحقيقه وهو بناء القاعدة التي يجب أن يقوم عليها المعمار الوطني المستقل، وهو الإنسان، فاتجه مبكرا إلى غرس شتائل وبذور ثقافة المواطنة والتضامن من خلال تربية الإنسان ضمن منظور إنساني كوني رحب يشمل قيم ومبادئ حقوق الإنسان والإحساس بوجود الآخرين واحترام كرامتهم واحتياجاتهم.
بناء القاعدة المعمار الوطني المستقل، وهو الإنسان
وربما أدرك أكثر من غيره في وقت مبكر كان فيه المغرب يترنح تحت وطأة الصراعات السياسية حول السلطة في بداية الاستقلال ، أن بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان وأن امتلاك السلطة السياسية لا يمكن أن تكون أداة للتغيير الاجتماعي إذا لم يتغير الإنسان.
ذلك هو الدرس الكبير الذي تعلمه وهو يشارك بكل عنفوانه وحماسه في شق طريق الوحدة عام 1957 إلى جانب الشهيد المهدي بنبركة وهو ورش شكل أول مدرسة وطنية لتربية الشباب على المواطنة والتطوع خدمة للناس والوطن، هذا الدرس الذي سيعمل الحيحي على ترجمته على الأرض بحشد الجهود لتطوير العمل الشبابي التطوعي الذي انبثق في أتون مواجهة الحماية وتأسيس الجمعية المغربية لتربية الشبيبة في ماي 1956.
المربي المُلهم
قاد محمد الحيحي هذا الورش التربوي والتطوعي باقتدار كبير وتفان قل نظيره ، وبرزت ملكاته التعليمية الفريدة، واكتملت فيه شخصية المربي المُلهم ، ما يجعلنا نطلق عليه بدون غلو ” المعلم الأول” تخرج من مدرسته خيرة رجالات الدولة وأطر كبيرة في مختلف المجالات، أعطى بسلوكه وهدوئه وعفة لسانه وإحساسه الإنساني المرهف ، القدوة والمثال لرجل الحكمة والأخلاق والتوافق.
كان قويا صلبا في مواقفه لكنه يفاجئك بضعفه الإنساني حين يستشعر ألم الآخرين فترى الدموع تترقرق في عينيه.
اقتربت منه في ثلاث لحظات..
وكنت أكتشف كلما اقتربت منه الإنسان القديس.
عرفته وهو يجوب المغرب يحشد الدعم والمساندة لأسر المعتقلين السياسيين في سنوات الإرهاب والرصاص، ويتنقل بين السجون يذكي معنويات المعتقلين ويبعث في نفوسهم الأمل، لم تكن في ذلك الوقت قد تأسست أية جمعية لحقوق الإنسان، لكنه كان روح حقوق الإنسان تسري في مغرب يخيم عليه ظلام الاستبداد الحالك.
وعرفته وهو يناضل بدون كلل في جمع شتات اليسار والحركة الوطنية، وخاصة في مرحلة تمزق أكبر حزب يساري في المغرب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حين كنت أزوره في تلك الفترة بشقته المتواضعة القريبة من مقر الوقاية المدنية بالرباط، كنت أجده متعباً كرجل المطافئ أعياه إخماد الحرائق، أسأله ما العمل؟
لم يكن يجيبني لكنني كنت أشعر كأنه يلملم أطراف جسده المقطوعة .
يتأملني مليا ويرفع قدح الشاي ، فتعود إلي صورة سقراط حين اتهمه قومه بالهرطقة وإفساد الشباب وحكموا عليه بالموت عبر تجرع قدح السم.
المغرب لا يمكن أن ينتظر، فكم من فرص ضاعت
وعرفته في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، كنا نكثر من الجدل ونحن نبحث عن مسالك للفعل الحقوقي وتفرقنا الرؤى والتوجهات حتى يكادُ في بعض الأحيان أن ينهار تماسكنا ، فيخاطبنا بهدوء الحكيم ودربة المربي الرائي:
إن ثمة مهام أكبر علينا أن ننجزها، المغرب لا يمكن أن ينتظر، فكم من فرص ضاعت، وضحايا انتهاكات حقوق الإنسان يعقدون علينا الأمل ، والمساهمة في التغيير الديموقراطي تقتضي منا رفع منسوب التطوع والتضامن والوحدة.
هكذا كان يمتص حدة الخلافات والاختلافات ويدفع الكل إلى العمل الإنساني بروح واحدة هي روحه الإنسانية السامية.
ربما هو الآن في عليائه يرقبنا ماذا سنفعل، وكما كان في حياته لا يحب المديح وأناقة الكلام ورنين الخطابة ،فإنه بالتأكيد لا ينتظر منا أن نرمي عليه الورود فهو في غنى عن ذلك فقد كان بستانيا يزرع الشجرْ والورود أينما حل وارتحل ، سيسألنا :الآن والمغرب يمر بظروف صعبة ماذا تفعلون؟
إن أحسن ما يرضيه في إحياء ذكرى غيابه
أن ننخرط بكل قوانا في عملية البناء والتغيير والمشاركة الاجتماعية وبث الأمل في صفوف الشباب.
كان محمد الحيحي يتألم لحالة فلسطين بقدر آلامه للفقراء والمهمشين والمضطهدين في المغرب، وكان يحب الشاعر محمود درويش، وأعتقد أنه لوكان حيا لخطابنا بلسان شاعر المقاومة التي تجسد قمة التطوع في خدمة لإنسان، وقال:
وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
[لا تَنْسَ مَنْ يطلبون السلامْ]
وأَنتَ تُسدِّذُ فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ
[ مَنْ يرضَعُون الغمامْ ]
وأَنتَ تعودُ إلى البيت، بيِتكَ، فكِّرْ بغيركَ
[ لا تنس شعب الخيامْ ]