بدعوة من المنتدى السنوي لـ «ميد الصحراء مرصد الدبلوماسية المغربية» حضرت لقاء في مدينة الداخلة دام ثلاثة أيام.... تميز بعروض هامة في موضوع الملك محمد السادس خمس وعشرون سنة رؤية ملكية وعشر سنوات من المنجزات في أقاليم الجنوب.... تميز هذا اللقاء بتنظيم محكم أشرف عليه كل من سعاد المكاوي وحسن العلوي وتميزت الجلسة الافتتاحية بعدة خطب.
بعد نصف قرن
قلت في بداية مداخلتي بأنني منذ أربع وأربعين سنة أتوفر على وسام لم أضعه على صدري... وأنا أستعد للسفر إلى الداخلة تذكرته وحملته معي لأضعه أمامكم لأول مرة في حياتي... أخرجت الوسام من جيبي وساعدني أحد الصحافيين على تثبيته فوق هندامي.... ارتحت لذلك خوفا من أكون في آخر زيارة للداخلة.
يرجع تاريخ هذا الوسام إلى يوم رابع مارس 1980 حين قرر الحسن الثاني إقامة حفل الولاء في الداخلة.... تم الإعداد لذلك الحفل بطريقة سرية حيث اشتغل جسر جوي لنقل حوالي ألفين من ممثلي مختلف جهات المغرب... هؤلاء هم الذين يحملون وسام الداخلة أما وسام المسيرة الخضراء فيحمله ثلاثة مائة وخمسون ألف متطوع ومتطوعة. سألني الحسن الثاني عن موعد البث التلفزي لروبورتاج هذه المناسبة التاريخية.... حرت في الجواب نظرا لضرورة إرسال الأفلام إلى مراكش ومنها سيأخذها سائق حتى الرباط ومن ثم تخضع العملية التحميض المونطاج ... كانت وسائل التصوير والبث المباشر الحالية لم تكتشف بعد... أجبت الملك .... سيتم البث في السادسة صباحا.... ابتسم الحسن الثاني وتساءل ستُجبرون المغاربة على السهر حتى هذه الساعة لمتابعة مهرجان وطني له أبعاد حضارية؟.... قرر الملك أن يضع طائرته الخاصة رهن إشارتي ومباشرة بعد الحفل بكل مراسيمه وتقاليده أقلعت الطائرة في اتجاه الرباط وكنت راكبها الوحيد... وفي الساعة الحادية عشر ليلا تم بث البرنامج ... هذه قصة الوسام الذي انتظر في خزانة كتبي إلى أن زينت به صدري بعد حوالي نصف قرن.
في نفق القصر
بعد هذه المقدمة عدت إلى موضوع مداخلتي فاستعرضت مختلف مراحل إعداد المسيرة الخضراء مع توفير اللوجستيك الضروري للنقل والإيواء والتغذية... وخصصت جزءاً من تدخلي المراحل الإعداد وتساءلت هل تم إخبار الحزبين الوطنيين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتنظيم المسيرة وكيف تم ذلك؟ لهذه الغاية زرت امحمد بوستة وسألته فاجأني... قبل خطاب 16 أكتوبر 1975 زارني ليلا وزير الخارجية أحمد العراقي وأخبرني أن جلالة الملك سيستقبلني غدا على الساعة العاشرة.. ورغم محاولاتي استكشاف سر هذه الدعوة المفاجئة ظل المبعوث صامتا.
ما أن توقفت سيارتي أمام باب القصر حتى توقفت إلى جانبي سيارة أخرى نزل منها عبد الرحيم بوعبيد وعندما اقتربت منه سألني ما هو الموضوع؟ فأجبته أنا مثلك ليست لدي أية معلومات..... استقبلنا الحسن الثاني ورافقناه وهو ينزل بنا الدرج لندخل في نفق سرنا فيه لعشرات الأمتار.. تبادلت النظرات مع عبد الرحيم مستغربا هذه المغامرة.... بعد حين دخلنا قاعة صغيرة أسرع الملك إلى إقفال بابها الوحيد... قال لنا الملك.. لدي أخبار سأبلغها لكما بعد أداء القسم... أخرج من جيبه ورقتين صغيرتين كتب عليهما بخط يده القسم ووقعهما ... أعطاني واحدة والثانية لعبد الرحيم وأدينا بين يديه القسم الذي يؤكد على الحفاظ على السر وتنفيذ تعليماته ثم أطلعنا على تنظيم المسيرة الخضراء والدوافع إلى ذلك.... أخبرني بوستة أنه لازال يحتفظ بتلك الورقة، فوراً فتح بزطامه المراكشي ومدني بالوثيقة التي قمت بتصويرها ونشرها في مذكراتي.
حديث الأجيال
كان تنظيم المنتدى محكما تدخل خلاله عدد من الاختصاصيين في مجالات مرتبطة بالموضوع العامل هذا اللقاء... لعل من أبرز المداخلات كلمة السيد عمر هلال سفير المغرب الدائم بالأمم المتحدة حيث أبرز ثوابت الدبلوماسية المغربية ومنهجية عملها وأسباب نجاحها... وتحدث الوزير الأول السابق ادريس جطو عن فترة مسؤوليته وما تم تحقيقه على المستوى الاقتصادي إلى جانب التجهيزات الأساسية التي مكنت المغرب من تبوء الصدارة... كما تحدث الوزير السابق محائد العنصر عن تجربته في مجال الجهوية ومراحل
تحقيقها والصعوبات التي تواجهها.
وانتظمت بعد ذلك عدة ندوات كانت الأولى حول ديناميكية الدبلوماسية المغربية كما رسمها التوجه الملكي». ثم ندوة حول المشاريع الملكية الكبرى» ثم ثالثة في موضوع بروز الأقاليم الجنوبية والتخطيط لمستقبلها.... ما أثار انتباهي خلال هذه الندوات هو صغر سن المتدخلين ومهنيتهم وقدرتهم على طرح الإشكاليات والاقتراحات لحل المشاكل والعزم الأكيد على الاستعداد للمستقبل... هؤلاء الشباب نساء ورجالا هم الجيل الذي سيرافق الملك محمد السادس لبناء المغرب الجديد.... ظهر جليا أن في بلادي هناك من يعملون... وفي بلادي من يتكلمون.... والمشاركون في تلك الندوات أنا على يقين أنهم من الفئة الأولى
ليل نهار
في ختام مقامي زرت مشروع ميناء الداخلة واستمعت مع المشاركين إلى عروض حول هذا الميناء الذي استمرت الدراسات لإنجازه ست سنوات وستستمر أشغال إقامته سبع سنوات وسيكلف 13 مليار درهما....
وبالموازاة مع ذلك يتم إعداد مناطق صناعية وضمان الطاقة الكهربائية الضرورية وذلك باستغلال الرياح والشمس... الأشغال هنا لا تتوقف ليل نهار وقد وصلت نسبة الإنجاز إلى 30 في المائة.
ما أراحني هو أن هذا المشروع الملكي الهام من تفكير وتخطيط ودراسة وإنجاز الأطر المغربية..... هو إنجاز مغربي مائة في المائة... فرحت عندما حاورت المسؤولين ووضعت سلسلة أسئلة وتلقيت أجوبة واضحة ... ما أراحني أكثر هو أن المشرفة على الإنجاز سيدة مغربية وأن معدل أعمار العاملين لا يتعدى اثنين وثلاثين سنة...
هؤلاء لا يتكلمون... إنهم يعملون ويتعبون وينجزون مغرب .الغد... بورك للجيل الجديد.