أكد محمد الدخيسي، مدير الشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني بالمغرب، على أن التزام المغرب بحماية حقوق الإنسان ليس مجرد شعار يُرفع أو خطاب يُلقى، بل هو نبض متجذر في أعماق الوطن، ورؤية حكيمة تستشرف المستقبل بثبات، إنه اختيار أزلي، وثيق العرى، ترسخه إرادة عبّر عنها الملك محمد السادس، حين قال في خطابه الموجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة: "لقد جعلت المملكة المغربية من حماية حقوق الإنسان خياراً لا رجعة فيه، وذلك في إطار استراتيجية شاملة "، مشددا على أن هذا الالتزام هو انعكاس لروح أمة تؤمن بأن الكرامة الإنسانية ليست مجرد حق يُمنح، بل هي جوهر وجود الإنسان.
جاء ذلك في كلمة له اليوم الثلاثاء 19 نونبر 2024 خلال افتتاح فعاليات ورشة العمل الإقليمية حول "تعزيز الضمانات التشريعية الوطنية بشأن مناهضة ومنع التعذيب وسوء المعاملة"، المنظمة من طرف المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمكتب الإقليمي لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يومي 19 و20 نونبر 2024 بمدينة الدار البيضاء.
وأضاف الدخيسي:" وتأكيداً لهذا النهج الثابت، تتجلى رؤى الملك محمد السادس مرة أخرى في رسالته الموجهة إلى المشاركين في الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان بمراكش بتاريخ 27 نونبر 2014، حيث أشار بكل حكمة ووضوح: "واليوم، فإن المغرب يوطد هذا الاختيار الذي لا رجعة فيه لفائدة حماية حقوق الإنسان والنهوض بها... قمنا في بداية هذا الأسبوع بتقديم أدوات تصديق المملكة المغربية على البروتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب... بهدف إحداث آلية وطنية في غضون الأشهر القادمة. وهكذا، سيصبح المغرب ضمن الثلاثين بلداً التي تتوفر على آلية من هذا القبيل." بهذا الإعلان التاريخي، يعكس المغرب طموحه العميق لتعزيز بنيته المؤسسية، ولتظل كلماته وأفعاله شاهداً على التزامه المستمر بحماية الإنسان وحقوقه في كل زمان ومكان"، كما أبرز أن المملكة المغربية وفي سعيها الدؤوب لمناهضة التعذيب، "تُظهر وجهها الإنساني، وجه ينير درب العدالة بتعاون صادق مع المنظومة الأممية، ويعكس وفاءً للعهود والمواثيق الدولية. فلا تكتفي المملكة بالانضمام إلى هذه الصكوك، بل تجعل منها منارة تُضيء بها مساراتها القانونية، وتجعل من أروقتها منبراً ينادي بالحق، ويرفع لواء الكرامة في وجه الظلم".
وفي هذا السياق، أفاد المتحدث ذاته أن المغرب انخرط منذ توقيعه على اتفاقية مناهضة التعذيب في 21 يونيو 1993 في مسيرة متجددة نحو ترسيخ قيم الحرية والكرامة، حيث حرص على مواءمة تشريعاته مع المبادئ الكونية، لتجعل من الحق في الحياة والسلامة الجسدية ركناً أصيلاً في بنيانها الدستوري. وقد جاء دستور 2011 ليعزز هذه المكتسبات، وليؤكد التزام الدولة بمناهضة التعذيب وتجريم كل أشكال المعاملة القاسية أو المهينة. وبذلك، يمثل تنظيم هذه الورشة الإقليمية دليلاً بارزا على انفتاح المغرب على قيم الإنسانية، وعزمه الراسخ على ترسيخ دينامية الإصلاحات الكبرى تحت قيادة الملك محمد السادس، الذي يقود مسيرة الوطن بثبات وحكمة نحو آفاق أرحب من الكرامة والعدالة.
وزاد قائلا:"إن المديرية العامة للأمن الوطني، وانسجاما منها مع أحكام دستور فاتح يوليوز 2011، الذي رسخ مجمل حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى تكريس وفاء اختيار المملكة المغربية الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانــــون، وإقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، بلورت رؤية متكاملة ومندمجة تهم حقوق الإنسان واحترام الحريات من خلال وضع مخطط عمل رامي إلى الوقاية من التعذيب وغيره من ضروب العقوبة أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية بصفة خاصة، والذي يرتكز على تمتين ودعم وسائل النزاهة والتخليق، وعصرنة هياكل ومناهج عمل الأمن الوطني ودعم قدرات موظفيه، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجويد التكوين الأساسي والمستمر والتخصصي وملاءمته مع المعايير الدولية والمقتضيات القانونية الوطنية ذات الصلة، وتعزيز التعاون الدولي والإقليمي في المجال الأمني، وتطوير مناهج وطرق البحث الجنائي ووسائل الشرطة التقنية والعلمية، والاستناد إلى القانون والتقنيات الحديثة في جمع الأدلة المادية في الميدان الجنائي، وكذا التواصل والانفتاح والتعاون مع المؤسسات والمنظمات المعنية".
وفي تقاسمه مع المشاركات، والمشاركين في الورشة بعضا من المرجعيات، والأسس التي يرتكز عليه المخطط المذكور، أبرز المتحدث ذاته أن هذا المخطط مبني أساسا على التوجيهات الملكية، وسيادة القانون، والتنزيل السليم لأحكام دستور المملكة، ومضامين المواثيق الدولية ذات الصلة بحظر التعذيب والتشريعات الوطنية، مع استحضار التوصيات المنبثقة عن تقارير آليات المعاهدات خاصة منها لجنة مناهضة التعذيب واللجنة الفرعية للوقاية من التعذيب في إطار الزيارة التي قامت بها هذه الأخيرة لبلادنا خلال سنة 2017، وتلك الصادرة عن المساطر الخاصة ذات الصلة المضمنة في تقرير المقرر الخاص بالتعذيب وتقرير الفريق العامل للاعتقال التعسفي إثر زيارتيهما للمملكـة على التـوالي سنتي 2012 و2013، وكذا "توصيات الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب"، التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، دونما إغفال قواعد "نيلسون منديلا لمعاملة الأشخاص المحرومين من الحرية" و "مبادئ منديز للمقابلات الفعّالة".
وأضاف أن المديرية العامة للأمن الوطني تعمل باستمرار على تأطير وتوجيه كافة موظفيها في مجال الاحترام الكامل لحقوق الإنسان وكرامة الأشخاص الذين يخضعون لإجراءات تدابير الحراسة النظرية تحت طائلة العقوبات التأديبية والإحالة على العدالة عند الاقتضاء. بالإضافة إلى أن فضاءات الوضع تحت الحراسة النظرية تخضع لتأطير مسطري دقيق للحيلولة دون جعلها مجالات مغلقة.
وفي هذا السياق، عرض الدخيسي بعض الإجراءات الاحترازية التي قامت بها المديرية العامة في هذا الإطار:
أولاً- على مستوى البنيات التحتية، تتجلى الجهود في تعزيزها عبر صيانة وتأهيل أماكن الحراسة النظرية لتكون فضاءات نظيفة، مضيئة، ومجهزة بوسائل الأمان، مع تخصيص أماكن للقاصرين تفصلهم عن البالغين، ومراعاة احتياجات الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال توفير مداخل ومرافق ملائمة، إضافة إلى تخصيص غرف آمان منفصلة للموقوفين في حالة سكر لاستعادة وعيهم. كما تم إحداث لجان مختلطة مكونة من مسؤولين من الشرطة القضائية والأمن العمومي والمصلحة الإدارية والأطباء، تعمل على تفتيش ومراقبة غرف الأمان بصفة دورية ومنتظمة (مرتين في الشهر على الأقل).
ثانيا- على مستوى تحسيس الموظفين المكلفين بمهام التدخل والإيقاف والبحث والحراسة النظرية و النقل: يتم تعزيز وعي الموظفين المكلفين بمهام التدخل والإيقاف، والبحث والحراسة النظرية والنقل من خلال تنظيم دورات تدريبية شاملة حول الإطار الوطني، والدولي لمناهضة التعذيب وسوء المعاملة، وتوزيع المذكرات المديرية التي تذكّر بالأحكام القانونية والتنظيمية الواجب احترامها، مع تحسيسهم بشكل دوري بأهمية تحسين أساليب التعامل مع المواطنين وضمان وجود عناصر نسائية في غرف الأمان، والالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان عند إجراء عمليات التفتيش الشخصي بما يضمن احترام الكرامة والخصوصية، مع تقنين الإجراءات الداخلية لتنفذ فقط من قبل مختصين مؤهلين وبما يراعي مبادئ التناسب والشرعية.
ثالثا -على مستوى منهجية العمل: يسعى ضباط الشرطة القضائية إلى ضمان احترام الاتفاقيات الدولية، والقوانين الوطنية من خلال إشعار الموقوفين بأسباب توقيفهم وحقوقهم بلغة واضحة، وتمكين الضحايا من الانتصاب كمطالبين بالحق المدني، وإشعار عائلات الموقوفين، أو الهيئات الدبلوماسية بالنسبة للأجانب، مع توثيق جميع الإجراءات في المحاضر القانونية والسجلات ذات الصلة، مع توفير كافة الضمانات القانونية بلغة يفهمها الجميع، بما يعكس التزاماً راسخاً بصون كرامة الإنسان.
رابعا -على مستوى النظافة والوقاية المستمرة من الأمراض المعدية: يتم توثيق كل عمليات التنظيف والتطهير في سجلات خاصة بالغرف الأمنية، تُحدد فيها تفاصيل الخدمة والمنتجات المستخدمة وهوية المنفذ، وفق مبدأ "من فعل ماذا وكيف ومتى"، كما تُجهَّز هذه الغرف بالأقنعة والقفازات والمعقمات، مع الحرص على احترام التباعد الجسدي بين الموضوعين تحت الحراسة النظرية. وتترافق هذه الجهود مع تحديث منتظم للدورات التكوينية، لمواكبة أحدث التطورات العلمية في مجال مكافحة الأمراض المعدية، سعياً لتحقيق بيئة آمنة تُحترم فيها كرامة الإنسان.
خامسا – التدابير الوقائية من مخاطر الحريق والهلع: تم اعتماد تدابير وقائية للحد من مخاطر الحريق والهلع، تشمل إعداد دليل مبسط يتناسب مع خصوصيات كل منشأة، يحدد الإجراءات الواجب اتباعها في حالة اندلاع حريق، مع توضيح المهام الموكلة للموظفين، ووضع برامج تدريبية للموظفين تشمل استخدام قنينات إطفاء الحريق، ووسائل الإنقاذ والإسعافات الأولية، وإجراء تمارين دورية لمحاكاة عمليات الإنذار والإجلاء، مع التركيز على إجلاء الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. إضافة إلى إجراء فحوصات دورية للتأكد من جاهزية معدات السلامة، وكفاءة أنظمة الإنذار وكاشفات الدخان، مع توفير خطط إخلاء ومخارج طوارئ واضحة ومقروءة في جميع المباني الأمنية.
وفي سياق تعزيز هذه التدابير الاحترازية، اتخذت القيادات الأمنية التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني منذ عام 2019، حسب المتحدث ذاته، سلسلة من المبادرات التي تجسد التزام المؤسسات الراسخ بضمان كرامة الأفراد داخل أماكن الحرمان من الحرية، مما شكل حجر الزاوية في بناء نظام يوفر بيئة آمنة تحترم حقوق الإنسان بشكل كامل، سواء في مراحل البحث أو في ظروف الحرمان من الحرية حيث تجلى هذا الالتزام بشكل جلي في:
o تنفيذ 90% من توصيات الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، مما يعكس التزامها بتحسين ظروف الحرمان من الحرية وتعزيز حقوق الإنسان عبر تطوير البنية التحتية وتحديث أنظمة المراقبة وتوفير التكوين المستمر والتخصصي اللازمين للموظفين.
o تنظيم 3537 دورة تدريبية متخصصة في مجال حقوق الإنسان، مما يعكس الحرص على ترسيخ ثقافة حقوقية بين أفراد الأجهزة الأمنية من خلال مزج الجانب النظري بالتطبيقي بهدف توجيه الفكر وتعميق الفهم وفقًا للمعايير الدولية، الأمر الذي يعزز وعيهم بأهمية احترام حقوق الأفراد ويقيهم من أي تجاوزات تمس بكرامة الإنسان.
o إصدار 710 دوريات ومذكرات مصلحية، تهدف إلى تنظيم العمل الأمني بما يتماشى مع توصيات الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، حيث لم تقتصر على كونها تعليمات إدارية، بل أصبحت أداة نسجت شبكة رقابة داخلية تضمن التزام مختلف المرافق الأمنية بأعلى معايير الشفافية والمساءلة، مما حولها إلى وسيلة فعالة لترجمة التوجيهات والتوصيات إلى ممارسات واقعية ومستمرة.
o إجراء 2250 عملية مراقبة وظيفية على الغرف الأمنية التابعة لها، بهدف التأكد من عدم وجود أي تجاوزات قد تمس بحقوق الأشخاص المحرومين من الحرية، حيث تمت هذه العمليات بدقة متناهية وحرص شديد لضمان أن تكون جميع الإجراءات المتخذة متماشية مع مبادئ حقوق الإنسان، وأن تظل كل زاوية داخل هذه المنشآت خالية من أي انتهاكات.
وفي إطار تعزيز التعاون المؤسساتي وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، أبرمت المديرية العامة للأمن الوطني والمجلس الوطني لحقوق الإنسان اتفاقية شراكة انطلقت في شهر شتنبر 2022، تهدف إلى تطوير العمل المشترك بين المؤسستين بغرض تعزيز مناهج التدريب والتكوين الشرطي في مجال حقوق الإنسان، ودعم الممارسات المهنية والتدخلات الميدانية وفق المعايير الوطنية والدولية في هذا المجال، مشيرا إلى أنه في شتنبر 2022، نظم المعهد الملكي للشرطة ندوة دولية حول "المعايير والممارسات المتعلقة بالوقاية من التعذيب وغيره من ضروب العقوبة أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أثناء الإيقاف والاستماع والحراسة النظرية"، التي عرفت حضور ممثلين رفيعي المستوى من القطاعات الوطنية المعنية، بالإضافة إلى ممثلي بعثات دبلوماسية والاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، فضلاً عن خبراء دوليين من آليات الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية، حيث كان هذا الحدث مناسبة لتعزيز الحوار وتبادل الخبرات حول أفضل الممارسات في مجال الوقاية من التعذيب. علاوة على تنظيم خلال سنتي2022 و2023 دورتين لتكوين المكونين، استفاد منهما 36 إطار للشرطة يشرفون على غرف الأمان التابعة للأمن الوطني، بهدف تعزيز قدراتهم في مجال حماية حقوق الإنسان أثناء أداء مهامهم.
وفي نونبر 2023، واحتفاءً بمرور عشريين عامًا على اعتماد البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب، نظمت المديرية العامة للأمن الوطني، بشراكة مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤتمرًا إقليميًا رفيع المستوى حول "دور المؤسسات الأمنية في الوقاية من التعذيب"، الذي عرف مشاركة ممثلين أمنيين رفيعي المستوى عن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب خبراء أمميين وأطر من مختلف المؤسسات الوطنية والقطاعات الحكومية.
وفي إطار الأبواب المفتوحة التي نظمتها المديرية العامة للأمن الوطني خلال عامي 2023 و2024، تم تفعيل رواق مشترك للأمن وحقوق الإنسان، شكّل فضاءً للتفاعل مع المواطنين حول الجهود المبذولة لتعزيز احترام حقوق الإنسان في الممارسة الأمنية، حيث أتاحت هذه التظاهرات فرصة ثمينة لتعريف الجمهور بمختلف مهام ومبادرات المؤسسة الأمنية، وتوضيح الآليات المتبعة لضمان الشفافية وحماية الحقوق، كما تمحورت موضوعات الرواق، خلال النسخة الأخيرة، حول الضمانات القانونية المكفولة للأشخاص المحرومين من الحرية أثناء مرحلة البحث القضائي، مما يعكس التزام المديرية العامة بتعزيز ثقافة الحقوق وضمانات العدالة، وتوطيد الثقة المتبادلة بين المواطنين ومرفق الأمن عبر الحوار المباشر والاطلاع على الإنجازات الميدانية.
وعبر محمد الدخيسي، باسم المدير العام لقطب المديريتين العامتين للأمن الوطني، ومراقبة التراب الوطني عن استعداد المديرية العامة للأمن الوطني الدائم، والمتواصل للتعاون مع كافة الشركاء الوطنيين والدوليين، بما يخدم المصالح الوطنية، ويستجيب للمبادئ الأممية في دعم السياسات الوقائية والإصلاحية والحمائية ذات الصلة، والكل في إطار صون كرامة الإنسان واحترام حقوقه الكونية.