بأسف عميق، وشعور بالغ بالضيم، يخوض المحامون 01 نونبر 2024 إضراباً شاملاً وكلياً عن الممارسة المهنية، بكل مظاهرها، واختصاصاتها، ومهامها، والاستنكاف عن تحمل الأعباء والمسؤوليات، أمام كل مرافق العدالة، قضائية وإدارية، استجابة لقرار جمعية هيئات المحامين بالمغرب، الذي يدخل في تركيبة المسؤولية فيه كل هيئات المحامين بالمغرب.
وهو قرار تاريخي، حيث لم يسبق لمهنة المحاماة بالمغرب، أن اتخذ المحامون قراراً بهذا المستوى والقوة والشمول، ويمكن تفهم ومعرفة أسبابه وإكراهاته، باستعراض المراحل السابقة عنه، حيث لم يدخر المحامون جهداً أو محاولة، في عرض القضايا التي يطرحها الواقع المهني خاصة، ومظاهر الخلل التي يعانيها المحامي في مجالات العدالة كلها، تشريعية ومؤسسية، يضاف إلى ذلك، شح الميزانية العامة عن تمويل المؤسسة القضائية، بالوسائل المالية والبشرية، لمواجهة الفيض العارم من القضايا، التي يرتفع عددها بشكل مهول، وينعكس بشكل مباشر على مصالح المتقاضين، والمحامين بطبيعة الحال.
لكن، ما أفاض كأس الصبر، وفجر الغضب والاستنكار، حتى ممن لهم صبر أيوب، من ((عقلاء )) المهنة هو الزيغ التشريعي، الذي مثلته خاصة، بعض نصوص مشروع قانون المسطرة المدنية، والمسطرة الجنائية، وما توحي به المؤشرات عن باقي مشاريع التشريعات التي تنذر بما هو أسوأ، وفي مقدمتها مشروع قانون مهنة المحاماة، الذي يجرى الحديث عنه بتهديد مبطن، من طرف بعض المسؤولين.
ورغم نضج ورشد سلوك المحامين، عن طريق مؤسساتهم التمثيلية، والسعي الجاد والمسؤول، ودعوة المسؤولين في الحكومة، إلى الحوار، في موضوع التشريعات الإجرائية قبل إقرارها من طرف البرلمان، إلا أن هذه المساعي قوبلت بالتجاهل، أو الاستجابة الصورية ذات النفس المسرحي.
ورغم هذا الوضع المهين، الذي لا سابق له، في مثل هذه الأوضاع، وتاريخ مهنة المحاماة بالمغرب، والأحياء من مسؤوليها شاهدون على ذلك، فإن جمعية هيئات المحامين، واجهت وضعية التجاهل بعقلية النضج، وبمنهج احتجاجي متدرج، رغبة في الحفاظ على المصلحة العامة، وإيقاض شعور المسؤولية لدى الحكومة.
وهكذا، تقرر إضراب أولي بمقاطعة جلسات المحاكم الجنائية باستئنافية المحاكم، والتوقف عن الأداءات بجميع الصناديق لدى كتابة الضبط، إلا أنه رغم هذه الإشارات والمواقف الأولية، جوبه كل ذلك، بالاعراض والتجاهل أيضا.
هذا بالإضافة إلى أن عقلية الغي والتجاهل، هيمنت على الأوضاع، وشعور القواعد المهنية من المحامين، بالغبن والإهانة حتى، الأمر الذي وصل بالبعض إلى اعتبار أن عدم الرد على التجاهل، يعتبر ضعفا من مسؤولي جمعية هيآت المحامين بالمغرب، لأنه يشكل سابقة سلبية، في التعامل مع المؤسسات التمثيلية للمحامين.
وهكذا، أصبح رد الفعل الطبيعي، هو تصعيد الآليات المشروعة للاحتجاج، منها الإضراب العام والشامل، بالتوقف عن الممارسة المهنية بكل صورها.
وموقف من هذا الحجم والمستوى، يمثل شجاعة في اتخاذه، وجرأة في إعلانه، واستحضاراً لحجم مسؤوليته وعواقبه، لأنه إجراء استثنائي بكل المقاييس، يوازي تجاهل الحكومة الذي يحمل نفس الصفة الاستثنائية، لأنه لا يعقل أن تدعو هيأة تضم سبعة عشر (17000) ألف محام إلى الحوار الجاد، في موضوع تشريع مسطري يهم جميع المغاربة أفراداً ومؤسسات، بما في ذلك الحكومة نفسها، التي لا يمكن أن تلجأ إلى القضاء، إلا بواسطة هذه التشريعات المسطرية.
وقرار الإضراب العام، يشكل اختيارا كبيرا، ولكن عظمة مهنة المحاماة وقوتها، في شخص جمعية هيئات المحامين بالمغرب، التي أثبتت وأثبت التاريخ والواقع، أنها قدرة، وإرادة، جبارة لا تقهر ولا تدجن، وهذا الصمود في الدفاع عن النفس والهوية، لن يكون سهلا، وبدون تضحيات ومعاناة، بل إن هذه التضحيات، لها هوية واحدة، وغاية واحدة، هي خدمة الإنسان في تحقيق تطلعاته، في حماية العدالة، لحريته وحقوقه، وكرامته بشكل عام، هذه الأهداف يعتبرها المحامون أمانة في عنقهم، الذي يؤكدها قسمهم أمام القضاء، هذه الأمانة التي كرم الله بها الإنسان، بعدما تهيبت السموات والأرض والجبال من حملها.
((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ... )) صدق الله العظيم.
واليقين مستقر، على أن المحامين – طبقا لما أثبت التاريخ، عندنا وعند غيرنا، مستعدون لتحمل تبعات هذا التحدي، والذي – ليس سهلاً، ولذلك قال الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني §§ ولكن تؤخذ الدنيا غلابا.
وقال آخر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم §§ وتأتي على قدر الكرام المكارم
وبالمناسبة، والمناسبة شرط كما يقال، يمكن الإشارة، إلى فقرة من نص مكتوب للسيد وزير العدل قبل أن يكون وزيراً جاء فيه:
(( ...وقد نذرت مهنة المحاماة نفسها للحق والإنسان، ورغم أن البعض حاول النيل منها عن سبق إصرار وترصد مقابل نهلهم من ثقافتها وفتحها المجال لهم لتبوئ كراسي لم يكونوا يحلمون بها، لكن تمرد اللئام لا يزحزح استمرارية مسارها في شيء. فمن شرف الإنسان، أن ينتمي لنساء ورجال المحاماة بشبابهم وشيوخهم، حيث تقضى بواسطتهم حوائج الناس، وينفخون الروح في القوانين من أجل تأهيلها لتخدم الإنسان والحق والعدالة، وذلك كله للذود عن المظلومين أينما كانوا، وأينما وجدوا )).
وعلى الجميع، أن يدرك أنه مهما بلغت التضحيات فهي مؤقتة، في حين أن المنجزات والمكاسب باقية، والمسؤولون ذاهبون، لكن مواقفهم عابرة والكراسي متحركة، في حين أن التاريخ ثابت لا يجامل ولا يرحم، فاعتبروا يا أولي الألباب.
جـلال الطاهـر ، محام بهيئة المحامين بالدار البيضاء