الأربعاء 4 ديسمبر 2024
منبر أنفاس

علي درويش: انسياب السرد وشعرية اللغة في قصتي بلقيس "بلا وداع" و"عوالم مختلطة"

علي درويش: انسياب السرد وشعرية اللغة في قصتي بلقيس "بلا وداع" و"عوالم مختلطة" علي درويش

يُجمِع أغلب المهتمين بالخطاب السردي أويكادون على أنه مفهوم معقد بتداخل أبعاده وتشابك مكوناته وتعدد عناصره وآليات اشتغاله، وهو معقد لأنه مفهوم مركب من مفاهين ضمنية، أطراف المفارقة فيه غالبا المبدع الحقيقي (أي الكاتب الشخص) والمؤلف الضمني (أي صورة الكاتب كما يشكلها القارئ في ذهنه)، ثم المتلقي وهو أيضا المتلقي (أو القارئ) الفعلي مقابل ذاك الذي تُرسم صورته في ذهن المبدع حين يبدع، ويكاد الأمر ذاته يصدق على الراوي بمختلف أدواره وأنواعه في علاقته بشخصيات القصة وكذلك على الشخصية في حوارها أو علاقتها مع غيرها ومع ذاتها ، وهلم جرا...

 

باختصار شديد فالخطاب السردي يزداد تعقيدا كلما تشابكت العلاقات بين عناصره، وهو أيضا معقد من حيث لغة السرد لفظا وتركيبا وأسلوبا وصيغا بلاغية. فهي لغة تختلف من حيث مستوياتها عن لغة الأشكال الكتابية الأخرى، لغة تتعدد وظائفها التواصلية والتعبيرية والوصفية للأماكن والفضاءات وملامح الشخصيات ونفسياتها وآمالها وآلامها.

 

بناء على ما تقدم، يجنح بعض النقاد إلى تجميع مختلف المفاهيم وأدوات المقاربة التي تحيل على نظريات ومناهج نقدية برؤاها المختلفة في قراءة تركيبية شاملة، مع أنها خطوة لا تسلم من مجازفة.

 

ومع ذلك قد تصبح هذه المقاربة التركيبية ضرورة لا مفر منها، إذا علمنا بأن ليس هناك منهج نقدي (صارم منهجيا ومفاهيميا) بإمكانه بمفرده أن يحيط بمختلف خبايا وأبعاد النص القصصي.

 

وتيسيرا لهذه المهمة القرائية الشاقة يمكن التمييز بين خطابين سردين جامعين، لكل منهما خصائصه وسماته أولها الخطاب السردي النقلي الذي يولي الأهمية لنقل وقائع الحدث بدقة، وبلغة لا تكلف المتلقي جهدا في الفهم والتأويل، وبانسياب في السرد قد تخللته وقفات من التأمل الذهني، يسعى السارد من خلالها إلى الأخذ بيد القارئ وتوجيه فهمه للرسالة الضمنية، كما هو الشأن في القصة الواقعية عامة.

 

أما النوع الثاني فهو تشكيلة من نثر سردي لكن بلغة تمتح من الشعر، وكلما ازدادت كثافة المؤشرات الشعرية في هذا الخطاب تعقدت مهمة التأويل، وغالبا ما ينضوي هذا الخطاب تحت مفهوم (شعرية السرد) وهو اختصارا ذلك السرد الذي يهيمن فيه الانزياح والإيقاع والمجاز والتصوير البياني وقد تحضر فيه المحسنات البديعية والإيحاء والتكثيف والرمز والتكرار والوصف، وتقنيا قد تتكسر فيه خطية السرد وتتنوع التقنيات من تدوير واسترجاع ولولبة..كما يكون حضور العاطفة وعناصر الطبيعة أحيانا لافتا.

 

وبراعة كاتب القصة (أو السرديات عامة)، في تقديري، رهينة بتخلص كتابته من النمطية واستنساخ نصوص لاحقة من نموذج سابق، أي براعته في مرونة يراعه وقدرته على التنويع والمزاوجة بين مستويات مختلفة في لغة السرد وإتقان تكييف لعبة السرد مع أطوار الصراع والأجواء النفسية والانفعالية مع الموازنة بين انتظارات المؤلف والمتلقي، من غير تكلف ولاتصنع.

 

وهذا بالضبط ما سنحاول رصده من خلال نموذجين قصصين انتقيتهما من سجل المبدعة الألمعية المتميزة د.بلقيس بابو، أولهما (بلا وداع) وثانيهما (عوالم مختلطة).

 

يتناول الأول لحظات خلوة تعيشها الساردة بشاطئ شبه خال، تهيم خلالها شاردة في أحلامها الرتيبة، مستمتعة بهدوء فضاء طبيعي ساحر، إلى أن طرق باب خلوتها هاته شاب على أعتاب الكهولة...

 

ويمكن اختصار الخطاطة السردية لـ (بلا وداع) في :

-استهلال وصفي لما قبل اللقاء..

-حكي لوقائع اللقاء وما ترتب عنه..

-النهاية الدراماتيكية...

 

أما (عوالم مختلطة)، فلا تختتلف من حيث أطوارها عن سابقتها( لحظات من الوحدة في فضاء خاص- سفر في ذكريات يكسر هدوءه الشعور بوجود المخاطَب - الختم بصراع داخلي بين الأسى والأمل).

 

كلما غصنا في ثنايا نص من هذين النصين، نرصد توالي المؤشرات الدالة على المزاوجة بين انسياب سرد تتخلله لحظات من التأمل الذهني وتحضر فيه ملامح، وشعرية الخطاب السردي بدءا من عنوانين يفتحان شهية التشويق والرغبة في التأويل لدى المتلقي.

 

ف (بلا وداع) عنوان مركب من حرف الجر (الباء) ولا النافية للجنس ولكنها زائدة، أي غير عاملة للنصب لاتصالها بباء الجر، وبذلك فهي نافية ل (وداع خاص) وليست للاستغراق أي نفي الوداع مطلقا، أما وداع فمجرورة بحرف الجر الذي أبطل ( لا) عملا وليس دلالة.

 

وبناء على هذه البنية التركيبة والدلالية فالعنوان يؤدي وظيفة التوقع، بمعنى أن قارئه ينشغل بالسؤال عن مآل الحدث وسببه، أي أن العلاقة تبدو من العنوان يلفها الغموض لأنها خرجت عن المسار الطبيعي لمثل هذه العلاقات.

 

أما "عوالم مختلطة"، فهو مركب وصفي من موصوف (بصيغة جمع التكسير المذكر) وصفة ( بصيغة المفرد المؤنث لأنها لغير العاقل)

وهذا التركيب الاسمي ( الوصفي) شائع استعماله في العنونة، خلافا ل ( بلا وداع) وبغض النظر عن اختلاف بين الخبرية والابتداء، فإنني أرجح أن تكون عوالم خبر لنمتدإ محذوف تقديره هذه أو هي، ليتم معنى الجملة، مما يمنح للعنوان دلالة لتشويق القارئ على استكشاف النص، بدل أن ينشغل بسر انتهاء لعلاقة بلا وداع كما في النص الأول.

 

ومع ذلك فقراءة متأنية للنصين، تكشف عن لغة سرد لا يحكمه الانشغال بنقل وقائع الحدث بل يصبح الشاغل فيه هو الكشف عن المشاعر الجوانية، أي أن مركز اهتمام السارد ليس إخبار القارئ وإنما التأثير فيه، وهذا ما يبرر تفادي الكاتبة للإطناب في الافهام لتشتغل بدل ذلك بلغة إدهاشية كي لا تسلب القارئ حقه في الفهم والتفكير والتأويل.

لغتها إذن، في النصين معا (مع بعض التفاوت) تقوم بوظيفة التشكيل الفني تتداخل فيه مستويات اللغة كما تتداخل ألوان لوحة ساحرة، لغة تنهار بفعل أدبيتها

( sa litterraritè) الحدود بين النثر والشعر حتى على مستوى الإيقاع

فقد تستوقفك مؤشرات كثيرة منها توالي المد ( بالألف) في النص الأول ( الناعم المتناثر/ أراقب انكسارها هاربة..) بينما تحضر الصوامت بشكل لافت في : ( عوالم مختلطة)، ممثلة في حروف الهمس وأكثر ما يتكرر منها الحاء والسين وخاصة الصاد بشكل لافت في النص الثاني ( صمت/صوت/تصدق...).

 

ذلك لأن الصاد حرف استعلاء وتضخيم وتفخيم، وهذا بهدف تهويل العوالم المتحدث عنها في النص. وإن كان أكثر ما يهمن من ظواهر البيان في النص الأول المجاز المرسل والاستعارة (الصمت يهيمن/ أذوب في الذكرى/ هزني سؤاله..) فإن أكثر ما يحضر منها في النص الثاني هو التشبيه باعتباره الأقرب إلى السهل الممتنع ( كأنما تغازل الشمس/كما لو كنت فوق أرجوحة..) والكناية(نبضات القلب كناية عن شدة الانفعال).

 

لكن شعرية اللغة لا تقتصر على التوظيف البياني والايقاع، وإنما تتجاوزهما إلى إيحائية اللفظ وكثافة التركيب، والتكثيف خلافا لما يروج له البعض، ليس مجرد اقتصاد في اللفظ، بقدر ما هو تركيب لفظي مركز خال من الإطناب والإسهاب والحشو، وذلك بهدف تعميق المعنى وتوسيعه في الوقت ذاته، حتى لكأن كل لفظة هي علامة مشحونة بالدلالة مغرية بالإيحاء.

 

وهكذا يبدو أن النص السردي عند بلقيس بابو، كلوحة فنية يهيمن فيها الانزياح التركيبي ، من خلال ظاهرة التقديم والتأخير ( خاصة تقديم المفعول على الفاعل)، وتردُّد الأساليب الإنشائية( النداء والاستفهام )

وأكثر ما يقوي انزياحية اللغة السردية في نص "بلا وداع" خاصة، ذلك الحضور اللافت لرمزية العناصر التي تحيل على حقل معجمي دال على الطبيعة ( الشمس، المويجات، البحر، طائر الشاطئ) إذ تتحول الألفاظ إلى رموز دالة على التوق إلى الحرية والانعتاق من حضور الآخر باعتباره رقيبا مشوشا، بينما ترمز الرواية في نص (عوالم مختلطة) إلى الحياة التي تشغل الذات عن أن تعيش لحظاتها بجمالها ومتعها الآسرة فتصر على السفر إلى الأعالي حيث الوحدة الحالمة، وهذا ما يبرر تردد التكرار بشقيه الدلالي [تحاورني/تناجيني/ تناديني ( بلا وداع) ]

و [لست بمفردي/ هناك من يطوف بي / كأنك معي ( عوالم مختلطة )]، و اللفظي [ خاطئ- تختفي..( بلاوداع) وكيف لي- لابد...(عوالم مختلطة )].

ينضاف إلى ما سبق ظاهرة التنويع على المستوى التقني والتي يدرجها البعض ضمن خصائص شعرية الخطاب، فالزمن حاضر عبر الطبيعة ( الصباح- كأنك معي الآن) دلالة على الحاضر) ،وحاضر بمفهومه الفلكي ( تمر الأيام) دلالة على الماضي والحاضر؛ و من خلال الأجواء النفسية للساردة ( الآن فرحتي) أي في الحاضر ، (ثم غادرتني - رحلت إلى الأبد)، أي النكوس مجددا إلى الماضي.

وبذلك تتكسر رتابة الزمن وتعدد، و هو بالمقابل وبالتزامن ( synchronisation ) ما يحصل مع الفضاء ( المكاني)، حيث يتعانق الفضاء بدلالتيه الحقيقية والمجازية، وذلك تبعا لتداخل المكان المحسوس (الفيزيقي) ممثلا في الشاطئ/ البحر/ الغرفة..الخ وهو فضاء ثابت لا يتغير، مع الفضاء النفسي، وهو فضاء مرن متقلب بل ينتقل من الدلالة إلى نقيضها فالبحر وشاطئه والغرفة نصادفهما فضاءين للراحة والسكينة والحلم الجميل ليتحولا بعد ذلك إلى فضاء تراجيدي قاتل في النص الأول. وفضاء باعث على الكآبة والغربة النفسية في النص الثاني.

 

إذا ما أضفنا إلى ماسبق هيمنة العاطفة الجياشة عبر حضور الذات الساردة ممثلة بضمير الأنا في النصين و عبر معجم وجداني مؤثر ( أحببتك)، بل عبر مقاطع وصفية مؤثرة تشكل لحظة توقف ( pause) لحركية السرد،لتفتح المجال لوصف الشخصية ( شاب على أعتاب الكهولة/ عيناه السوداوان/ ابتسامة آسرة) أو لجمال الطبيعة ( الحصى الأبيض الناعم المتناثر)، سيصبح من الثابت أن السرد بيراع د.بلقيس لعبة مرنة تتقن تنويعها بمهارة فائقة ليتناغم الخطاب السردي والأجواء النفسية والانفعالية ( بلا وداع) فضلا عن التأمل الذهني (عوالم مختلطة ) من جهة و جمالية المبنى من جهة ثانية.