الجمعة 22 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد العمارتي: قراءة تحليلية للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية (1)

محمد العمارتي: قراءة تحليلية للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية (1) محمد العمارتي
مرت  أكثر من سنة بكاملها على شن إسرائيل لعدوانها على قطاع غزة، ورغم الدمار الهائل الذي خلفه هذا العدوان وبلوغ حصيلة ضحاياه عشرات الآلاف من بين السكان المدنيين، وما أدى إليه من تهجير قسري لأكثر من نصف سكان قطاع غزة، ورغم الانتهاكات الخطيرة والمتواصلة للقانون الدولي الإنساني ولقوانين وأعراف الحرب التي ترتكبها  القوات الإسرائيلية، والتي وثقتها وأكدتها تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة ومقرريها الخاصين، فلا زالت إسرائيل تتحدى المجتمع الدولي وتتمادى في احتقار القانون الدولي والدوس عليه. وبعد أن حولت الحرب الإسرائيلية قطاع غزة إلى "جحيم على الأرض" حسب تقارير وشهادات العديد من الوكالات الإنسانية الدولية، وسعت إسرائيل في الأسابيع الماضية عدوانها الى جنوب لبنان، منتهكة بذلك سيادة هذا البلد ووحدة أراضيه وسلامة سكانه في الجنوب وفي العاصمة بيروت، ولم تسلم من الاستهداف والقصف العنيف حتى القوات الأممية لحفظ السلام المتمركزة منذ سنة 1978في المنطقة العازلة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل بناء على قرار لمجلس الأمن.

وفي خضم تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني وعلى قلب بيروت وأحيائها  ،وفي ظل التفاعلات المتسارعة التي تنذر باشتعال حرب شاملة في منطقة الشرق الأوسط، وترقب إصدار المحكمة الجنائية الدولية  لمذكرات التوقيف التي طلبها المدعي العام (أنظر مقالنا المنشور في هذا الموقع بتاريخ 02 يونيو 2024)، ثمة ما يبرر مع ذلك الانتباه الى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليوز 2024 بشأن "التبعات القانونية لسياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية".

والواقع أن وسائل الإعلام الواسعة الانتشار، لم تنتبه لصدور هذا الرأي القانوني الذي لم يحظ بالاهتمام سوى من لدن دائرة ضيقة من الأكاديميين والخبراء في القانون الدولي الذين أفردوا له بعض تعاليقهم في الدوريات المتخصصة.

وبالنظر لكون هذا الرأي الاستشاري صدر في سياق مشحون بتداعيات الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، واعتبارا لكونه رأيا قانونيا صادرا عن الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، ولأنه يكرس ويؤكد بما لا يقبل الجدل أو الخلاف، انتفاء قانونية استمرار إسرائيل في احتلال الأرض الفلسطينية وضرورة انسحابها منها، فضلا عن كون هذا الرأي يحدد بوضوح موقف القانون الدولي من الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه يعتبر بالتأكيد مكسبا قانونيا ذا أهمية بالغة بالنسبة للشعب الفلسطيني.

ويجدر تذكير القارئ أن الجمعية العامة كانت قد قررت في دجنبر 2022 (قرار ج ع رقم 77/247 بتاريخ 30 دجنبر 2022) وفقا للمادة 96 من ميثا ق الأمم المتحدة، أن تطلب من محكمة العدل الدولية، طبقا للمادة 65 من النظام الأساسي للمحكمة، أن تصدر رأيا استشاريا بشأن سؤالين يكتسيان طبيعة قانونية دقيقة وهما:

أ‌) ماهي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأرض الفلسطينية منذ عام 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير الرامية الى تغيير التكوين الديمغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟

ب‌) كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟

وتبديدا لأي التباس بخصوص الزاوية التي سنعالج منها الموضوع، نؤكد بداية أن ما يستأثر باهتمامنا في هذه القراءة التحليلية للرأي الاستشاري للمحكمة، كون الجمعية العامة طلبت من المحكمة الإفتاء القانوني في المسألتين المشار إليهما مع مراعاة قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة وفتوى المحكمة المؤرخة في 9 يوليوز 2004 (قضية الجدار الفاصل).

وبالتالي كان من البديهي أن تسهب المحكمة في جوابها عن السؤالين الرئيسيين، وأن تخصص تحليلات إضافية للقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويتضح من التحليل الموسع للمحكمة لقواعد هذا القانون ومعاييره، ومن العناصر الغزيرة الأخرى ذات الصلة التي يمكن استخلاصها من رأيها الاستشاري، أن المحكمة قد حسمت مسألة أساسية تتعلق بقابلية تطبيق معايير القانون الدولي لحقوق النسان وسريانها على الأرض الفلسطينية المحتلة (أولا)، واعتبرت المحكمة أن هذه القواعد تتعرض للانتهاك بطريقة منهجية من طرف إسرائيل (ثانيا)، وأكدت المحكمة إمكانية اللجوء الى سبل الطعن المتاحة لترتيب العقوبات على ارتكاب هذه الانتهاكات (ثالثا).

وأخذا في الاعتبار حجم الرأي الاستشاري للمحكمة (81 صفحة و285 فقرة) وغزارة وتعقد المسائل القانونية التي يثيرها ويحللها، الأمر الذي يتعذر معه القيام في حيز محدود بقراءة تحليلية وافية وشاملة لمحتوياته القانونية الكثيفة، سوف نكتفي باختزال أبرز المسائل المتعلقة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان التي تطرقت لها المحكمة في رأيها الاستشاري.

أولا – في تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان  في الأرض الفلسطينية المحتلة
تصدت محكمة العدل الدولية منذ البدء وبصورة قبلية لسؤال جوهري يتعلق بمدى قابلية تطبيق القانون الدولي في كون طبيعة هذه الإجابة هي التي من شانها أن ترهن إقرار المحكمة بوجود التزامات من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان على عاتق إسرائيل بصفتها قوة محتلة، والاعتراف للفلسطينيين بحقهم في المطالبة بالحماية التي يضمنها هذا القانون، وفضح انتهاكات قوة الاحتلال لقواعده، وسلك كافة سبل التظلم والانتصاف امام الهيئات الوطنية والدولية القضائية وشبه القضائية المتاحة.

وقد حسمت المحكمة في رأيها الاستشاري هذه المسألة بالإيجاب، مما قادها إلى تحليل قانوني مطول ورصين يستند على مجموعة من الحجج والاستدلالات القوية، التي تدعم في مجملها وجاهة وصلابة الرأي القانوني المدافع عن ضرورة تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وسوف نقتصر من جهتنا، تفاديا للإطالة في شرح قضايا قانونية عويصة تطرقت لها المحكمة بعمق في رأيها الاستشاري، على التعرض لمسألتين أساسيتين.

1) المعايير الدولية لحقوق الإنسان الملزمة لإسرائيل
ورد في الرأي الاستشاري ل 19 يوليوز 2024 أن محكمة العدل الدولية تأكدت، بخصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان، من أن إسرائيل دولة طرف في عدة آليات اتفاقية دولية ترتب عليها التزامات واضحة في هذا المجال.
وقد خصت المحكمة بالذكر ثلاث اتفاقيات على وجه التحديد من بين صكوك دولية أخرى عديدة صادقت عليها إسرائيل وهي: الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري ل 21 دجنبر 1965 التي صادقت عليها إسرائيل في يناير 1979، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 اللذين صادقت عليهما في أكتوبر 1991.

فبخصوص العهدين الدوليين لسنة 1966، اقتصرت المحكمة على التذكير بأن إسرائيل تعتبر ملزمة بمقتضيات هذين العهدين محجمة عن الإفاضة في تحليل هذا الشق من الالتزامات الاتفاقية لإسرائيل، آخذة بالاعتبار التحليل المطول الذي أفردته سابقا لهذا الموضوع في رأيها الاستشاري بشأن الجدار الفاصل الذي أصدرته في 9 يوليوز 2004.

بيد أن المحكمة خصصت تحليلا موسعا ومفصلا لاتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز العنصري، مؤكدة أن هذه الاتفاقية لا تنص في أي بند من بنودها على التقييد الصريح لنطاق سريانها الإقليمي، مضيفة أن عدة مقتضيات في هذه الاتفاقية، تفرض على الدول الأطراف التزامات واجبة التطبيق" في الأقاليم الخاضعة لولايتها أو» تجاه " كل إنسان داخل في ولايتها". وقد قاد هذا التفسير الذي تبنته المحكمة لنطاق تطبيق الاتفاقية الى جزمها بكون احكام الاتفاقية تنطبق أيضا على أي فعل أو سلوك أو تصرف من قبل الدولة الطرف في الاتفاقية يرتب آثاره خارج النطاق الإقليمي لهذه الدولة. وفيما يتعلق تحديدا بالأراضي الفلسطينية المحتلة، ذكرت المحكمة بالتوصيات الختامية للجنة القضاء على التمييز العنصري (بمناسبة تقديم وفحص تقرير إسرائيل أمام اللجنة في 2020) والتي اعتبرت فيها أن الاتفاقية تنطبق وتسري على الأفعال التي ترتكبها إسرائيل ضد الأشخاص الموجودين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي يجب على إسرائيل، حسب رأي المحكمة، أن تمتثل للالتزامات التي تفرضها عليها الاتفاقية حينما تمارس اختصاصاتها خارج إقليمها.

ويجدر التنبيه في هذا الصدد، أن المحكمة حينما ركزت تحليلها تحديدا على اتفاقية القضاء على أشكال التمييز العنصري فإنها تدرك كما تؤكد ضمنيا أن إسرائيل تعد طرفا أيضا في عدد من الصكوك الدولية الأخرى التي تفرض عليها التزامات تتعلق بحماية حقوق الانسان. فقد كان بإمكان المحكمة أن تستدعي أيضا الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل لعام 1989 التي صادقت عليها إسرائيل في 1991 واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979) والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية او اللاإنسانية او المهينة (1984)، اللتين صادقت عليهما إسرائيل في 1991، وكذلك الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006 التي صادقت عليها إسرائيل في 2012. 

وليس ثمة شك أن محكمة العدل الدولية، اختارت أن تركز تحليلها على الصكوك التي اقتنعت بأنها الأكثر ملائمة للسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي طلب منها ان تصدر ر أيا استشاريا بشأنها. بيد أن إحالة المحكمة الى بعض الأدوات الاتفاقية دون غيرها لا ينفي مطلقا التزامات إسرائيل بوجوب تطبيق كافة اتفاقيات حقوق الإنسان التي صادقت عليها هذه الدولة فيما يتعلق بسياساتها وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وكون الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل للحقوق المعترف بها للشعب الفلسطيني بموجب جميع هذه الاتفاقيات ترتب مسؤولية هذه الدولة عن هذه الانتهاكات وتستتبع المتابعة طبقا للقانون الدولي.

2 – في قابلية تطبيق الصكوك الدولية لحقوق الإنسان خارج الأقاليم الوطنية 
دأبت إسرائيل على الاعتراض على قابلية تطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، متحججة بكون أدوات هذا القانون التي صادقت عليها ينحصر تطبيقها في إقليم دولة إسرائيل الذي صار يشمل حسب زعمها القدس الشرقية. وتدفع إسرائيل بأن موضوع هذه الأدوات الدولية ينحصر في ضمان حماية المواطنين في مواجهة الحكومة القائمة في بلدهم، مضيفة انه ليس ثمة ما يعلل تطبيق هذه الاتفاقيات طالما أن جزءا واحدا فقط من الضفة الغربية هو الذي لا زال يخضع للاحتلال، بينما لم يبق قطاع غزة محتلا حسب رأيها، منذ أن سحبت جيشها منه في عام 2005.

وخلافا لما تدعيه إسرائيل، تعتبر أغلب الدول والمنظمات الدولية التي انضمت وشاركت في مسطرة الرأي الاستشاري ل 19 يوليوز 2024 أن القانون الدولي لحقوق الانسان لا ينحصر نطاق تطبيقه ضمن الحدود الإقليمية للدولة فقط، بل يمتد تطبيق هذا القانون ليشمل الأعمال والتصرفات التي تقوم بها الدولة خلال ممارسة اختصاصاتها خارج إقليمها الوطني. وبالنتيجة فإن اتفاقيات حقوق الإنسان التي صادقت عليها إسرائيل تعتبر، حسب رأي هذه الدول والمنظمات، قابلة للتطبيق في الأراضي التي تحتلها هذه الدولة.

وفي جوابها عن سؤال مدى التزام إسرائيل بتطبيق القانون الدولي لحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحديدا، ذكّرت المحكمة بهذا الخصوص أن الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الانسان قابلة للتطبيق على اعمال الدولة أثناء ممارستها لاختصاصاتها خارج إقليمها الوطني، وفي هذه الحالة الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.  وبذلك أكّدت المحكمة ما ذهبت اليه في رأيها الاستشاري السابق بشأن "الجدار الفاصل" لعام 2004 الذي كانت قد اعتبرت فيه أن تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان وإعمال مقتضياتها ملزم لإسرائيل حتى خارج اقليمها الوطني، وذلك بصفتها قوة احتلال تمارس اختصاصا إقليميا في الأرض الفلسطينية المحتلة، خالصة الى ان إسرائيل مطالبة باحترام الالتزامات التي  ترتّبها هذه الاتفاقيات في تصرفاتها وعلاقاتها القانونية مع السكان الفلسطينيين.

ويمكننا القول أن محكمة العدل الدولية قد ذهبت في رأيها الاستشاري الأخير الى أبعد مما أفتت به في رأيها حول التبعات القانونية للجدار الفاصل لعام 2004، حيث أكّدت في رأيها الصادر في يوليوز 2024 أن الأرض الفلسطينية المحتلة تشكل من الناحية القانونية، [كيانا إقليميا واحدا يجب الحفاظ على وحدته واستمراريته واحترامها]، مضيفة ان الأرض الفلسطينية المحتلة تحيل بالتالي الى [نفس الوحدة الإقليمية] وأن قطاع غزة يظل إقليما تحت الاحتلال خاضع لسيطرة إسرائيل.

ومن ثم، يتضح أن مقاربة محكمة العدل الدولية كانت منسجمة مع التأويل المتفق عليه عالميا بخصوص الآثار المترتبة عن معاهدات حقوق الانسان   في مواجهة الدولة التي تكون طرفا فيها، حيث يرجح هذا التأويل شمول آثار هذه الاتفاقيات جميع الأعمال التي تباشرها الدولة والمتصلة باختصاصاتها خارج اقليمها الوطني، طالما ان هذه الدولة تمارس سيطرتها الفعلية على منطقة معينة أو على اشخاص موجودين في الخارج.   
 
محمد العمارتي / أكاديمي- باحث في القانون الدولي لحقوق الإنسان 
                      (يتبع)