المرحوم محمد بن تاويت الطنجي ، كان قد ترك وراءه في بيته بتركيا ، خزانة عامرة بأمهات الكتب والمصنفات والوثائق
■ العالم الزاهد :
قال الكاتب والإعلامي عبد الإله التهاني ، متحدثا عن العلامة الباحث المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، في مستهل الحلقة الأخيرة من برنامج "مدارات " على الإذاعة الوطنية بالرباط، بأنه من الشخصيات الفكرية التي افتقدتها الثقافة المغربية الحديثة، حيث وصفه بمحقق ذخائر التراث وكاشف نفائس المخطوطات، مبرزا أن سيرته في الحياة ، تمثل صورة الرجل الذي زهد في كل شيء ، إلا في العلم وخدمة العلم.
وأوضح أنه بالرغم من أن ابن تاويت ، لم يكتب له أن يعيش طويلا، إلا أن حياته كانت حافلة بالعطاء، مليئة بأعمال البحث والتنقيب والتحقيق، لإخراج مخطوطات نفيسة من تراثنا المغربي إلى النور، من خلال تحقيقها ودراستها ونشرها.
وسجل معد ومقدم برنامج "مدارات" إلى أن مسار العلامة المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، تخللته فترات لم تخل من صعوبة وإكراهات، إلا أن ذلك لم يثن عزيمته على مواصلة رسالته العلمية، مع التأليف والبحث، ومتابعة رحلته الاستكشافية لنفض غبار النسيان، عن مؤلفات ذات قيمة تاريخية وعلمية، بقيت في عداد المخطوط لقرون، قبل أن يتيسر تحقيقها وطبعها ونشرها على يديه .
وأكد الكاتب والإعلامي عبد الإله التهاني أن سيرة الباحث المغربي المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، جديرة بأن تلقى عليها الأضواء من جديد في المحافل العلمية، من طرف الباحثين الذين يعرفون قدره، ويدركون حجم الإنتاج المعرفي الذي ساهم به ، في خدمة الثقافة المغربية والعربية والإسلامية. كما يستحق أن يعاد طبع أعماله التي ألفها، وتحقيقاته التراثية التي أنجزها.
وتعريفا بشخصية محمد بن تاويت الطنجي، كان قد ولد بإحدى القرى القريبة من مدينة طنجة عام 1911، مستدركا بأن هناك من يرجح أن تكون ولادته سنة 1918.
■ السباق مع سنوات العمر :
وأضاف يقول بأنه مهما يكن من أمر بخصوص تاريخ ميلاده، فإن وفاته رحمه الله كانت عام 1974م بتركيا، مما يجعلنا ندرك من خلال تاريخ وفاته، أن حياته لم تكن طويلة، فكأنه رحمه الله كان في سباق مع سنوات العمر، لإخراج ما كان ينجزه تأليفا وتحقيقا ، وفق تعبير الكاتب الاعلامي عبدالإله التهاني، الذي أشار في ذات السياق إلى ابن تاويت الطنجي، وعلى غرار أبناء جيله ، هاجر بعد إنهاء تعليمه الأولي إلى فاس لاجل ابدراسة بجامع القرويين ، حيث ستكون هذه المحطة أساسية في تكوينه، إذ سيتتلمذ هناك على يد كبار علماء المغرب وقتئذ، ليعمل بعدها مدرسا بالمدرسة الأهلية في تطوان .
وأبرز ذات المتحدث التهاني إن طموح محمد بن تاويت الطنجي العلمي، كان يغالبه على الدوام، ويحفزه على البدء في رحلة دراسية جديدة، ولكنها مختلفة هذه المرة. وهكذا سيشد الرحال نحو مصر سنة 1938، لينتظم في سلك الدراسة بقسم التاريخ في جامعة فؤاد الأول بالقاهرة التي سيتخرج منها عام 1943.
وفي هذه الفترة ، يرى الإعلامي عبدالإله التهاني، بأن رحلة ابن تاويت الطنجي في عالم المخطوطات ، كانت قد توطدت ، وأصبح الاهتمام بها واكتشاف كنوزها ونفائسها ، خيارا علميا رئيسيا وذا أولوية، في حياته وانشغالاته الفكرية اليومية، ولهذا السبب كان معهد المخطوطات العربية في القاهرة، قد انتدبه لحضور مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في لندن سنة 1945.
■ المسار الجديد في أنقرة وإسطنبول :
ولعل هذه المرحلة حسب معد ومقدم برنامج" مدارات "، سيكون لها ما بعدها في المسار العلمي لابن تاويت الطنجي، حيث سيعرف تحولا ومعطفا جديدا، بعد هجرته إلى تركيا ، وإقباله على تعلم اللغة التركية، بمدينة أنقرة، الامر الذي سيتيح له امتيازا ذا قيمة بين أبناء جيله، يتمثل في امتلاك مفاتيح الولوج إلى خزانات الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية التي تتوفر تركيا على رصيد ضخم منها، لا يعد ولا يحصى، بحكم أن الدولة العثمانية وعاصمتها إسطنبول، كانت تحكم مناطق شاسعة من العالم العربي، طيلة قرون عديدة.
وبخصوص الكتابات التي اهتمت بسيرة المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، أكد معد ومقدم برنامج مدارات، أنها تجمع على أن إقامته العلمية في أنقرة بتركيا، قد وفرت له فرصا واسعة لتعميق معرفته بالتراث العربي والإسلامي المخطوط، وفتحت له أفقا ، مما كان له أثره البالغ على مؤهلاته وقدراته الفكرية، حيث سيكتسب خبرة كبيرة في التعامل مع المخطوطات ، وفي فك خطوطها ورموزها وأشكالها. وكان من أول ما سيركز عليه ابن تاويت الطنجي في هذا الباب، هو الاهتمام بتراث المؤرخ ابن خلدون، سواء منه كتابه الشهير "المقدمة"، أو رحلته التي دون فيها ابن خلدون تنقلاته في الشرق والغرب، وبقي يكتبها ويراجعها ويزيد فيها على مدى سنوات.
وعن رجوعه إلى المغرب، أوضح عبدالإله التهاني، بأن العلامة محمد بن تاويت الطنجي، عاد من تركيا إلى المغرب سنة 1963، مرجحا أن تكون هذه العودة إلى بلاده، بتشجيع من الأستاذ المرحوم علال الفاسي، الذي كان قد عين وقتئذ وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية. وهكذا سيلتحق محمد بن تاويت الطنجي للعمل بهذه الوزارة، كمكلف بتحقيق التراث.
وأضاف ذات المتحدث أنه من ؤثمرات عمله خلال هذه الفترة في الوزارة ، هو إشرافه على تحقيق ثلاث كتب مهمة ونفيسة جدا.
وأضاف ذات المتحدث أنه من ؤثمرات عمله خلال هذه الفترة في الوزارة ، هو إشرافه على تحقيق ثلاث كتب مهمة ونفيسة جدا.
ويتعلق الأمر بكتاب "ترتيب المدارك" للقاضي عياض، وكتاب "جذوة المقتبس" للحميدي، إضافة إلى كتاب "الفهرس" لابن النديم.
وأوضح عبدالإله التهاني، أنه على الرغم من هذه الإنتاجية الوفيرة، التي أنجزها العلامة البحاثة محمد ابن تاويت الطنجي رحمه الله ، بعد عودته إلى المغرب، إلا أنه سيقدم مرة أخرى على الرجوع إلى أنقرة، ليواصل رحلته مع كنوز المخطوطات العربية والإسلامية في خزاناتها. كما سيجري تعيينه أستاذا محاضرا في العلوم الإسلامية، بكلية الإلهيات في مدينة أنقرة.
■ حياة بين المخطوطات في إسطنبول :
وفي ذات السياق ، ذكر الأستاذ التهاني، بأن الرجل بقي يضطلع بمهامه في التدريس الجامعي بهذه الكلية ، إلى حين وفاته رحمه الله سنة 1974، مشيرا إلى أن قضاء ابن تاويت الطنجي ، الفترة الأطول من حياته في تركيا، يرجع إلى سببين أو عاملين أساسيين، أولهما شغفه بمخطوطات التراث العربي الإسلامي، التي توجد مئات الآلاف من نسخها في مختلف الخزانات ومراكز الأرشيف في أنقرة وإسطنبول. والعامل الثاني هو أن زواجه من سيدة تركية، كان له تأثيره المباشر على قراره الاستقرار في أنقرة .
ومهما يكن ـ يضيف الإعلامي عبد الإله التهاني ـ فإن حياة الإغتراب التي عاشها العالم المحقق محمد بن تاويت الطنجي، بين القاهرة التي قضى هبها ثماني سنوات ، وتركيا التي عاش فيها قرابة سبع وعشرين عاما، إلا أن ذلك بنظره لم ينقص من عزيمته ، ولم تفتر همته طيلة هذه الفترة، بل أنها كانت حقبة متمرة، أنتج فيها تالمرحوم محمد بن تاويت الطنجي كتبا ومقالات ودراسات، وحقق فيها مصنفات على درجة كبيرة من الأهمية، مسجلا أنه ربما لم يتح لغيره ، ممن لم يتغربوا عن أوطانهم، أن يوفقوا إلى تحقيقها.
■ غربة في الممات وغربة في الحياة:
ولفت الأستاذ عبدالإله التهاني الإنتباه ، إلى أن المرحوم محمد بن تاويت الطنجي ، كان قد ترك وراءه في بيته بتركيا ، خزانة عامرة بأمهات الكتب والمصنفات والوثائق، التي كان يقتنيها بنفسه أو يحصل عليها في إطار عمله الأكاديمي، وأنه لا يستبعد أن يكون من ضمن محتويات خزانته صور لمخطوطات ومصنفات ناذرة، إضافة إلى ما لم ينشره من كتاباته خلال حياته.
وأبرز بأن هذه الخزانة الهائلة ، قد آلت إلى المعهد العالي للدراسات التاريخية بمدينة إسطنبول ، بمقتضى اتفاق مع زوجته التركية وابنته الوحيدة. وبهذا الخصوص، أشار إلى أنه لم تنجح كل الجهود التي باشرها المغرب، لاقتناء هذه الخزانة، فبقيت هناك ، كما بقي مرقد صاحبها في تركيا، لتنضاف غربة محمد بن تاويت الطنجي في الممات، إلى غربته في الحياة.
■ موسوعية ابن تاويت الطنجي :
وأبرز عبد الإله التهاني أن المرحوم محمد بن تاويت الطنجي ، قد كتب في مجالات عدة، وخصوصا في مجالات الأدب والتاريخ، وتراجم الأعلام، والفقه وأصوله، والحديث وعلوم القرآن، وأنه ضمن هذا كله يندرج عمله الرائد في تحقيق التراث المخطوط ، فضلا عن تميز اهتماماته العلمية بطابعها الموسوعي الشامل.
■قائمة تحقيقاته التراثيةالكبرى:
واستعرض المتحدث ضمن الحلقة الأخيرة من برنامج "مدارات " ، مجمل المصنفات التي حققها محمد بن تاويت الطنجي ، ومنها تحقيقه كتاب "جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس وأسماء رواة الحديث والأدب وذوي النباهة والشعر" ،وهو كتاب نفيس في تراجم الأعلام وتاريخ الأدب والعلم في بلاد الأندلس ، لمؤلفه أبي عبد الله محمد الحميدي المتوفى عام 488 للهجرة.
كما أشار إلى عمله الرائد وغير المسبوق ، والمتمثل في تحقيقه كتابه "التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا"، وكان هذا الكتاب قد صدر بالقاهرة سنة 1951. كما أورد ذات المتحدث، تحقيق ابن تاويت لكتاب آخر لابن خلدون ، في باب التصوف ومسائل الوجود، وهو كتاب "شفاء السائل لتهذيب المسائل"، والذي طبع بتركيا عام 1957.
كما سجل بأن محمد بن تاويت الطنجي، كان رائدا وسباقا إلى العناية بتراث العالم المغربي الكبير القاضي عياض السبتي، وأنه في هذا الإطار ، قام بتحقيق كتابه المسمى "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، حيث صدر بالرباط سنة 1965
في نفس السياق أوضح بأن ابن تاويت الطنجي، حقق أيضا بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ علال الفاسي، كتاب "مختصر العين" لمؤلفه الزبيدي الإشبيلي.
كما ذكر أن من تحقيقاته الأخرى التي انفرد وتميز بها، تحقيقه كتاب "الإعلام بحدود قواعد الإسلام" ، الذي طبع عام 1964 بالرباط.
وعلاوة على ما ذكره من الأعمال الأدبية والفقهية التي حققها المرحوم محمد بن تاويت الطنجي، أشار الاستاذ عبدالإله التهاني ، إلى باقي المصنفات التي أشرف على حققها ابن تاويت وعلق عليها ووضع فهارسها، حيث ذكر له تحقيقه لكتاب "المكاثرة عند المذاكرة"، وهو من تأليف جعفر بن محمد الطيالسي ، أحد أبرز علماء بغداد في القرن الثالث الهجري.
ومن الآثار الدالة على موسوعية ثقافة بن تاويت الطنجي ، بتعبير الأستاذ عبد الإله التهاني، تحقيقه كتاب "نهايات الأماكن لتحديد مسافات المساكن" لمؤلفه أبي الريحان البيروني، وهو من كبار علماء القرن الخامس الهجري. ويندرج مؤلف البيروني هذا ضمن علم الجغرافيا، وصدر الكتاب عام 1960.
وإضافة إلى هذا ، أشار نفس المتحدث إلى مؤلفات أخرى حققها ابن تاويت الطنجي، وقدم لها وعلق عليها، ومنها كتاب "أربعون حديثا في اصطناع المعروف" لمؤلفه أبي حامد عبد القوي المنذري، وكذا مساهمته في تحقيق ديوان الشاعر أبي الربيع سليمان الموحدي، وبالإشتراك مع محققين آخرين.
كما أشار إلى تحقيقه كتاب "أخلاق الوزيرين"، لمؤلفه الكاتب الكبير أبي حيان التوحيدي، الذي اشتهر بكتابه الفريد "الإمتاع والمؤانسة".
وختم الأستاذ عبدالإله التهاني حديثه، بإبراز المكانة العلمية الرفيعة، التي ظل يتمتع بها المرحوم محمد ابن تاويت الطنجي، في الأوساط العلمية والجامعية داخل المغرب وخارجه.
وفي هذا الصدد ، أورد شهادات عنه ، كان قد كتبها عدد من كبار أعلام الدراسات العربية، كالدكتور إحسان عباس، والدكتور حسن عزة ، والدكتور نوري الجراح ، منوها في ذات السياق بما كتبته الباحثة المغربية الدكتورة نجاة المريني، وعرفت من خلالها بالجهود العلمية للمرحوم محمد بن تاويت الطنجي، وبمحطات من حياته وسيرته ، داعية إلى العناية بتراثه وأعماله القيمة من طرف الباحثين.