السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: كتاب دافيد لوبروتون الجديد.. عن الكلام في مجتمع أشباح

عبد السلام بنعبد العالي: كتاب دافيد لوبروتون الجديد.. عن الكلام في مجتمع أشباح عبد السلام بنعبد العالي
أهي نهاية تبادل أطراف الحديث"
 
 
هذا هو العنوان الصغير للكتاب الأخير لعالم الإناسة دافيد لوبروتون الذي ظهر هذه السنة تحت عنوان: "أهي نهاية تجاذب أطراف الحديث؟" David LE BRETON, LA FIN DE LA CONVERSATION ? La parole dans une société spectrale,Paris. يسعى لوبروتون في هذا الكتيّب، كما يقول هو نفسه، إلى أن "يتتبع آثار محادثات تواجه التحدي، كي يفهم قيمتها الأنثروبولوجية والتهديدات التي تواجهها". وهو يتساءل: "كيف سيغدو العالم حينما يحل "تواصل تبادل المعلومات" محل "تجاذب أطراف الحديث"، وحين يهيمن "الاتصال" على الحوار والمحادثة، وحين يصبح الرابط الأساس مع الآخر يتم عن بعد دون وجود متبادل، اللهم إلا تجاور الأفراد، من غير أجساد، ولا حسية، ومن غير عاطفة، فليس إلا التشبه والمحاكاة؟".
 
أنماط الحوار
ينطلق المؤلف من تحديد عالم الاجتماع الفرنسي غبريال تارد لـ"تجاذب أطراف الحديث" بقوله إنه "حوار بلا فائدة مباشرة وفورية، حيث يتحدث المرء لمجرد التحدث، للمتعة، للتسلية، أو للمجاملة". وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الحوار يخضع لقواعد تتجلّى عادة في احترام دور الكلام، والاستماع المتبادل، وأخذ مسافة جسدية تتناسب مع درجة الألفة، وإصدار نغمات صوت مناسبة... وهو يعتمد مبدأ المساواة والتماثل والتبادل، وعدم الاهتمام بالتراتبيات الاجتماعية، حتى وإن لم يتم تجاهلها بالكامل. وهو تبادل لا يحتمل أي عدم لياقة أو انقطاع في الطقوس قد يضرّ بكرامة المحاور. كما أنه يستدعي اهتماما ودّيا يراعي حدا أدنى من اللياقة واحترام الآخر. بهذا المعنى، فالمؤلف لا يميز بين المحادثة، والحوار أو المناقشة. ما يهمه أساسا هو التمييز بين مختلف هذه الأشكال من "تجاذب أطراف الحديث" من جهة، وبين "التواصل"، أي بين الحضور المتبادل وجها لوجه، والتواصل عن بعد، دون جسد، دون حضور، دون وجه أو مع وجه على الشاشة.
 
المحادثة ليست عرْضا علميا، ولا يتم تقييمها على هذا الأساس، بل إنها أحيانا تكون مجرد محادثة "فارغة"، مجرد "دردشة" تتكون من بعض الأخبار عن حالة الطقس، أو عن الضرورة الصعبة للذهاب إلى العمل في الصباح الباكر، أو عن انتقال جار. إنها لا تُعلم شيئا جديدا، لا تنقل معلومات، لكنها تعيد نسج الروابط، وتؤكد للمتحاورين شعورهم بالحضور، وتنسج نوعا من الاعتراف المتبادل. فهي، حتى إن كانت لا تتجاوز "تفاهات" الحياة اليومية، تمنحها عمقا، فتقوي الثقة والشعور بعدم الوحدة، والإحساس بإمكان أن تكون مهما في نظر شخص غريب يتبادل معك بضع كلمات.
 
إيقاعات
لا يلعب الكلام وحده الدور الأساس هنا، فإلى الكلمات وأسلوب الخطاب المستخدمين يضاف إيقاع التبادل، الصوت، النظرات، الحركات، المسافة إلى الآخر... ولا يمكن اختزال المعنى في الخطاب وحده، فمحتوى الكلام ليس سوى بعد واحد من العملية، ولا يمكنه استيعابها بالكامل. الطريقة التي ننظر بها، التوقفات، طرق التعبير أو الصمت، النغمات، السكوت، وحركات الجسد كلها أيضا حاسمة. صحيح أن "تجاذب أطراف الحديث" لا يتجلّى دوما في شفافية توحّد الأفراد، فهو يكون أحيانا مثيرا للجدال، بل مصدرا لسوء الفهم والتوترات، ولا يتطلب دائما الاتفاق، لكنه "يجمع" الأفراد الحاضرين في مواجهة متبادلة.
 
كل هذا يذوب عندما يحل "التواصل" محل "تجاذب أطراف الحديث". وهنا يلعب الهاتف الذكي الدور الأساس في فرض علاقات جديدة، كي يغدو الأداة الملكية للفردانية المفرطة في العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث يعزّز شعور الفرد بأنه يشكل عالما بمفرده، وبأن الآخرين متاحون له، يمكن استدعاؤهم أو صرفهم في أية لحظة. إنه يوفر الوسائل لتجاهل الآخرين. فبالنسبة إلى عدد من المعاصرين، يشكل الاتصال من طريق الهاتف بديلا للحياة الواقعية، وحماية من اضطرابات العالم، لكونه لا يحمل التناقضات أو الشكوك التي ترافق العلاقات المباشرة وجها لوجه.
 
ثم إن الانبهار بالاستخدامات المتعددة للهاتف الذكي يقطع أيضا المحادثة الداخلية مع البيئة المحيطة، ويحول الشخص إلى نوع من المراقب الذي لا يستريح، ينتظر وصول إشعار ما. يسير في المدينة أو في أماكن أخرى، لكنه لا يرى شيئا، حيث تمتص شاشته جميع حواسه في نوع من التنويم المغناطيسي. هو منغمس بالكامل في مهمته، غير مبال ببقية العالم. "يمثل محو الجسد بشكل طقوسي ذروته عندما يتم محوه تقنيا في الواقع، سواء أكان ذلك جسد الآخر أم جسد الشخص نفسه". إن إلغاء جسد الآخر في التبادل يستبعد أي إحراج أو تحيز أو خجل تجاهه، خاصة أن الاتصال يكون مبسطا إلى حد الفعالية، أي مقتصرا على التذكير بوجود الاتصال فقط، ففي العديد من الاتصالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا يعرف أحد فعليا من هو الشخص الموجود على الجانب الآخر من الشاشة.
 
الهاتف الذكيّ
من مجرد أداة، أصبح الهاتف الذكي رمزا معاصرا، يعطل حواسنا الأخرى كي لا يبقي منها إلا حاسة البصر العالقة بالشاشة. بل إنه يعطل أجسادنا وروابطنا فيفرض على لقاءاتنا انتباها مجزأ، كما يفرض عليها التبديل السريع بين الاهتمامات الذي غدا من صميم العلاقات الاجتماعية. ففي "مجتمع الأشباح"، لم يعد الفرد يدرك بيئته المادية والبشرية إلا بشكل عرضي. لا يتوقف الهاتف الذكي عن مطالبة المستخدم بالاهتمام طوال اليوم، أحيانا مئات المرات، مما يتيح للفرد أن يكون حاضرا هنا وهناك في الوقت نفسه، بحيث "يستفيد" من ظروف الحياة الاجتماعية والعائلية دون أن يكون خاضعا لها. فيصبح المحيط الاجتماعي اختياريا، حيث يمكن الدخول والخروج منه بحرية بفضل الشاشة، حتى عندما يكون الفرد محاطا بـ"أقارب" أو "أصدقاء" ملموسين حوله. لقد أصبح الانفصال عن الواقع جزءا عاديا من الحياة اليومية، خاصة بالنسبة إلى المراهقين، إذ يتم تقديمها تقنيا بسهولة وهو يتيح للخيال التحرر لتعويض الإحباطات.
 
اخترع الأميركيون مصطلح "phubbing"، وهو دمج لكلمتي phone(الهاتف) وsnubbing(التجاهل)، وهو يشير إلى فعل إرسال الرسائل النصية أثناء الاستمرار في النظر إلى الشخص الذي تتحدث معه في عينيه. إنه تمثيل زائف لتبادل أطراف الحديث مع الحفاظ على اللباقة أمام بعض الأشخاص الذين لا ترغب في إزعاجهم بشكل مباشر، وهم غير مدركين للاستخفاف الذي يعاملهم به محاورهم.
 
عزلة مضاعفة
وهكذا تتضاعف العزلة في مجتمع الأشباح، لتمنح شعورا متناقضا بالوفرة الزائدة، مع أنها لا تبقي من الروابط الاجتماعية إلا أشكالا من المحاكاة و"التشبه". ففي عالم اليوم المفرط في الاتصال، "أصبحت المحادثات التي تتطلب مواجهة وجها لوجه، أو بالأحرى "وجها تجاه وجه"، والتي تتطلب الاستماع والانتباه للآخر ولتعبيراته، أصبحت نادرة، وكذلك اللباقة التي كانت تغذيها. فكثيرا ما يتم قطع هذه المحادثات من قبل محاورين يكونون حاضرين جسديا ولكنهم يختفون فجأة عند سماع رنة هاتفهم المحمول أو عند استخدامه".
 
نعلم أن الوجه هو مركز الثقل في أي محادثة. المواجهة هي أولا وجه لوجه. الوجه هو مكان الاعتراف المتبادل، فهو يعرض لحكم الآخرين السمات التي تعرف الفرد. من خلاله، نعرف، نسمّى، ونصنف وفقا للجنس والعمر، من خلاله نكون محبوبين أو محتقرين، أو نظل مجهولين، غارقين في لامبالاة الحشود. يجسد الوجه بطريقة مرئية للفرد أخلاق حضوره في العالم، حتى وإن كان ذلك رغما عنه. اختفاء الوجه يعبر عن نهاية كل أخلاق، تلك المرتبطة بالثقة التي وحدها تسمح بإقامة التبادل في العلاقة الاجتماعية. بدون وجه يحدد الهوية، يمكن لأي شخص أن يفعل أي شيء، وكل شيء سيصبح متساويا، وسيكون من المستحيل بناء الثقة، وستفقد الأخلاق أي معنى. وهذا بالضبط ما يحدث على شبكات التواصل الاجتماعي، وما يكرسه الهاتف الذكي كل لحظة.
 
يتحدث المؤلف عما يسمّيه "نهاية الكلام" في هذا المجتمع الذي يخاطب فيه الأفراد أشباحا مفترضة. ولعل ما ينبغي إضافته إلى ذلك، هو أن الأمر يتعلق أيضا بنهاية الصمت، الصمت الذي نعلم أنه يكون أحيانا أبلغ من الكلام. لكن، كما نعلم، فإن الهاتف الذكي يهاب الصمت، فأيّ توقف طويل عبره يمنح الشعور بأن الشخص الآخر اختفى، وبأن الاتصال انقطع، مما يدعو إلى التساؤل بقلق: "هل أنت هنا؟"، "هل انقطعنا؟"، "لا أسمعك!".
في مجتمع "الأشباح"، ينتهي الكلام، لكن الصمت أيضا فيه، أمر لا يطاق.
 
عن مجلة "المجلة"