الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: أين يوجد مركزُ العقل؟

أحمد الحطاب: أين يوجد مركزُ العقل؟ أحمد الحطاب
ما يجب إثارة الانتباهِ إليه، هو أن القرآن الكريم يُشير، في كثيرٍ من آياتِه، للبشر ولبني آدم وللإنسان. في اللغة المتداولة، أي في الأحاديث التي يتبادلونها الناس في حياتهم اليومية، هذه الكلمات الثلاثة لها نفس المعنى، أي تُعتَبَر مترادفة. ونفس الشيء يُلاحظ في الأدبيات المكتوبة والمسموعة. بينما، في القرآن الكريم، الخالي من التَّرادُف، كل واحدة من هذه الكلمات الثلاثة لها معنى خاص بها. والسِّياق الذي جاءت فيه، هو الذي يُحدِّد هذا المعنى.
 
البشرُ كان موجودا قبل بني آدم، لكنه كان غير عاقل. وهذا شيءٌ بيَّنه علم الأحفوريات paléontologie وعلم الإناسة anthropologie. وما توصَّل إليه العلمُ الحديثُ هو أن العقلَ قد تكون له علاقة بحجم الدماغ. وهذا يعني أنه، كلما كان هذا الحجمُ كبيرا، كلما كان العقلُ مُتطوِّراً.
 
أما كيف خلق الله، سبحانه وتعالى، الإنسان العاقل من طين وكيف نفخ فيه من روحِه، فهذا شيءٌ لا يعلمُه إلا الله، عزَّ وجلَّ. ما هو واضِح في القرآن الكريم، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خلق آدمَ (البشر العاقل) من طينٍ ونفخ فيه من روحه ليُصبحَ عاقلا، أي له وعيٌ بوجوده وبوجود الوسط الذي يعيش فيه، وكذلك، بوجود الأشياء المحيطة به في نفس الوسط. وهذا البشر العاقل، سماه اللهُ، سبحانه وتعالى، آدَم. وذريةُ آدم، أي البشر العاقلون المنحدرون من آدم وزوجتِهِ حواء، هم بنو آدم. ولما أصبح بنو آدم يعيشون على شكل جماعات داخلَ المجتمعات، سمَّاهم، عزَّ وجلَّ، الإنسان أو الناس، علماً أن كلمةَ "ناس" هي جمعٌ كلمة "إنسان". ولمزيد من التَّوضيح، أنظر المقالة التي نشرتُها على صفحتي في الفيسبوك بتاريخ 19 يوليوز 2024، تحت عنوان : "بنو آدم، البشر والإنسان في القرآن الكريم".
 
والآن، أعودُ إلى السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : "أين يوجد مركزُ العقلِ"؟ فهل مركزُه الدماغُ كما بيَّن ذلك العلمُ الحديث؟ أم مركزُه القلبُ كما جاء ذلك في القرآن الكريم؟ أم جسمُ الإنسان، كلُّه، هو مركز العقل؟ لماذا؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، حين قال : "نفختُ فيه من روحي"، لم يُبيِّن هل النَّفخُ همَّ الجسمَ كلَّه أم جزأً من هذا الجسم؟
 
قبل الجواب على هذا السؤال، هناك ملاحظةٌ، أعتبِرها، أنا شخصياً، مُهمَّة للغاية. الملاحظة هي أن هِبةَ العقل لبني آدم، إرادةٌ إلهيةٌ. وعندما نقرأ القرآن الكريم، من ألفه إلى يائه، يتَّضح لنا أن هذه الإرادة الإلهية، الهدف منها هو إسعاد البشر وجعلِ حياتَهم كلَّها خيرٌ، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70).
 
في هذه الآية، ما هو مؤكَّدٌ أن اللهَ، سبحانه وتعالى، فضَّل الإنسانَ على جميع المخلوقات الحيَّة الأخرى. لكنه يقول في نفس الآية :"... وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا". ما يُثير الانتباهَ هنا هو عبارة : "...عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا…". المقصود ب"كَثِيرٍ"، في هذه الآية، ليس فقط الكائنات الحية الأخرى، لكن كذلك الملائكة. والله، سبحانه وتعالى، فضَّل آدم على الملائكة وأمرَهم أن يسجدوا له، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (الأعراف، 11).
 
انطلاقا من هذه الاعتبارات، تفضيل بني آدم على سائر المخلوقات الحيَّة الأخرى جاء عن طريق تمكين آدم وذريته من العقل والنُّطق. والعقلَ البشري عبارةٌ عن مجموعة الظواهر والمَلَكات الذهنية facultés mentales التي تجعل من آدم وذرِّيتِه كائنا حيا مختلفا عن الكائنات الحية الأخرى. وتتجلَّى هذه الظواهر والمَلَكات في كونه مخلوقا واعياً بوجوده وبوجود الكون وقادرا على الإدراك perception والأنفعال affectivité والحدس intuition والتَّفكير pensée وإصدار الأحكام émission de jugements وإظهار السلوكات manifestation des comportements والتَّمييز بين ما هو صائبٌ وما هو خاطئٌ من بين هذه السلوكات… وفوق هذا وذاك، بفضل العقل البشري، الإنسان كائن اجتماعي un être social أو sociable.
 
ورغم أن القرآنَ الكريمَ، يشيرُ للعقل في العديد من آياتِه، غير أنه لا يتضمَّن تعريفاً واضحا حول ماهية العقل وحول مركزِه. والقرآن الكريم يُمَوضِعُ العقلَ في القلب، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج، 46)، بينما العِلم الحديث، حسب نتائج كثيرٍ من الأبحاث، يُمَوقِعه في الدماغ.
 
وبما أن القرآنَ الكريمَ ليس فيه تعريفٌ واضح لا للعقل ولا للقلب، فالعقل يبقى شيء غير ملموس، أي يُدرَك وجودُه واستعمالُه، علماً أن هذا العقلَ هو الذي يجعل الإنسانَ مختلِفاً عن الكائنات الحية الأخرى.
 
ولهذا، كثُرت التَّأويلات والتفاسير التي تُعرِّف العقلَ. فبالنسبة للعديد من الأديان، سماوية أو وضعية، العقل هو الجوهر principe المُتجسِّد في الذات البشرية لكنه غير ملموس، أي لامادِّي. وبالنسبة للفلسفة وعلم النفس psychologie، قد يُفسَّر العقلُ بالضمير أو بمجموع الأنشطة الذهنية activités mentales التي يقوم بها الكائن البشري عن وعيٍ. ويبقى السؤالُ مطروحا، فأين يوجد مركزُ العقلِ؟
 
الله، سبحانه وتعالى يُخبرنا بأن العقلَ يوجد في القلوب التي توجد في الصدور، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ، الوارد في الآية رقم 46 من سورة الحج، المشار إليها أعلاه.
 
بينما العِلمُ الحديث، بفضل نتائج ما قام به من أبحاث منذ سنين، يُمَوضِع العقلَ في الدماغ. والعلم الحديث، نفسُه، هو الذي بيّن بوضوح، منذ نهاية السبعينيات، أن القلبَ والدماغ مُرتبطان، الأول بالثاني والثاني بالأول، ارتباطا وثيقا ينتج عنه تفاعلٌ متبادلٌ على امتداد 24 ساعة بدون توقُّف. وهذا التفاعل المتبادل أو، إن صحَّ القول، هذا الحوار المتبادل ليس فقط ارتباطاً عضوياً anatomique بين عضوين حيويين organes vitaux في جسم الإنسان. بل إنه تبادلٌ للمعلومات، يختلط فيها ما هو مادي بما هو عاطفي émotionnel وما هو بيولوجي بما هو نفسي psychologique. وتبادل المعلومات هذا يتم عبرَ تيار كهربائي influx nerveux أو عبر إفرازٍ هرموني sécrétion d'hormones أو عبر أمواجٍ حقل كهرمغناطيسيي ondes du champ électromagnétique يُصدرها القلبُ نفسُه.
 
والعِلم الحديثُ هو الذي بيَّن بأن القلبَ ليس فقط عضَلَةٌ عبارة عن مضخَّة pompe تُرسِل الدَّمَ المؤكسج sang oxygéné والمشبَّع بالعناصر الغذائية nutriments. بل إن هذا القلبَ يحتوي على جهازٍ عصبي صغير système nerveux خاص به، مُكوَّنٌ من خلايا عصبية neurones، والذي يُطلق عليه الأخصائيون اسمَ "دماغ القلب". وهذا الدماغ، أي دماغ القلب، هو الذي يُرسِل، باستمرار، معلوماتٍ إلى دماغ الرأس الذي يتفاعل مع هذه المعلومات ويكون سببا في تكييفِ العواطف مع الحالة النفسية للأفراد ويؤثِّر، كذلك، على طريقة تكوين المعرفة cognition وطريقة التَّفكير وحتى اتخاذ القرارات prise de décisions.
 
ومما تجدر الإشارة ُ إليه، أولاً، هو أن المعلومات التي يرسلُها القلبُ إلى الدماغ أكبر بكثيرٍ من تلك التي يُرسلها له الدماغ. ثانيا وحسب ما قام به، مؤخَّرا، الأخِصَّائيون من أبحاث، القلبُ له القدرة على إصدارِ أشعاعٍ كهرمغناطيسي قوي un rayonnement électromagnétique قادر على التأثير على كلِّية الجسد المادي للإنسان ولكن، كذلك، له تأثيرٌ على كل ما هو نفسي psychique، عاطفي émotionnel أو سلوكي comportemental.
 
انطلاقا من هذه الاعتبارات، يتَّضِح أن العقلُ البشري يتحكَّمان فيه، معا، القلبُ والدماغ. ولهذا، فمن الضروري أن يكونَ الارتباطُ بين القلب والدماغ متوازناً كي لا تنتُج عنه اختلاجات عقلِية وبدَنِية. وهذا يعني أن هذا الارتباطَ ليس، كما سبق الذكرُ، مجرَّدَ اتصالٍ عُضوي anatomique بين القلب والدماع. بل إنه، كما سبق الذكرُ، ارتباطٌ تختلط فيه العواطف بطرق التَّفكير وبالصحة البدنية. ولهذا قلتُ أعلاه إن القلبَ والدماغَ يحدث بينهما حوارٌ مستمر يساهم في صحة العقل والبدن.
 
إذن، القلب، كما جاء في القرآن الكريم، له دورٌ في تنشيط العقل واشتغالِه. وما دام هذا القلبُ يحتوي على دماغٍ خاصٍّ به، مُكوَّنٌ من ما يزيد عن 40000 خلية عصبية neurones، السؤال الذي يفرض نفسَه هو : "هل القلب ذكي"؟ حسب نتائج بعض الأبحاث التي أُجرِيَت في بداية القرن الواحد والعشرين، يبدو أن القلبَ، بفضل احتوائه على دماغ خاص به، وبفضل علاقته بالدماغ المركزي وبجميع خلايا الجسم، قادرٌ على اتخاذ القرارات، بل له القدرة على التَّعلُّم والتَّذكُّر وحتى على الإدراك.