الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد كلاوي: الديمقراطية ووهم التمثيلية

محمد كلاوي: الديمقراطية ووهم التمثيلية محمد كلاوي
بالرجوع إلى آخر المستجدات في الشرق الأوسط التي واكبت عملية الإبادة الجماعية لساكنة غزة المحاصرة منذ سبعين سنة، والتي لايزال يقودها بنيامين نتنياهو، بعد ضرب إسرائيل غير المسبوق، من طرف حركة حماس في السابع من أكتوبر2023، يتبين بالملموس مدى محدودية الشعارات التي طالما تبجحت بها الايديولوجية الليبرالية الغربية حول الحقوق الإنسانية، والتي نصبت نفسها ساهرة علي نشرها وتكريسها في مختلف بقاع العالم. بل وصلت الجسارة ببعض القادة، وبالأخص الرئيس الأمريكي "جو بايدن" لحد الجهر بانحيازه الصارخ للعملية الانتقامية الصهيونية عندما أعلن غداة انطلاق الحرب على غزة بأنه صهيوني. والواقع أنه قول لم يجرؤ على الإفصاح عنه أي من بين الرؤساء المتعاقبين على قيادة الحكومة الأمريكية رغم انحيازهم اللا مشروط للأطروحة الإسرائيلية. وقد تم كل هذا في تجاهل مطلق للإرادة الشعبية المعبر عنها بالاحتجاجات الشعبية العارمة في الغرب وخصوصا الولايات المتحدة، التي ما فتئت تندد بأعمال التقتيل المقترفة ضد الأطفال والنساء الفلسطينيين من طرف إسرائيل:
هنا يطرح أمامنا سؤال جوهري حول حقيقة الديمقراطية ومدى انسجامها مع الخطاب السائد في النظم السياسية الغربية، حتى مع الاقرار بأن لها تطبيقا واسعا على المستوى المحلي لهذه النظم. الإشكال هنا لا يرتبط فقط بشكوكنا في مصداقية هذه الخطابات التي لانزال واتقين بأن غايتها قبل وبعد كل شيء اقتصادية واستراتيجية محضة، بل نسعى إلى التحري حول أصلها كمفهوم وكيفية ممارستها.
 
أما في العالم غير الديمقراطي حيت الولاء يكون شخصيا لا مؤسساتيا، فالأمر يكاد يبدو بديهيا مادامت أنظمته تنحو نحو الاستبداد وعدم الاعتراف بالفرد كمواطن داخل دولة رغم ادعاء جلها الانتماء لاقتصاد السوق، والذي لا تأخذ منه إلا الجانب المادي بتجريده من شقه السياسي الذي يفرض بالموازاة ضمان التنافسية والتحلي باحترام القانون وعدم الاحتكار وتضارب المصالح...
 
فمن المعلوم أن الديمقراطية في تعريفها الأصيل تعني "حكم الشعب لنفسه بنفسه"، أي أنها لا تتحقق ولم تتحقق إلا في صيغتها المباشرة، كما كان عليه الأمر في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد حيت كانت القرارات تناقش وتتخذ عبر التصويت المباشر من طرف جميع مكونات الشعب. وإذا ما استثنينا حاليا الكانتونات السويسرية كأقرب شكل لها بحكم تمتيع المواطن فيها من التحكم في مندوبيه عن طريق الاستفتاء العام الإلزامي بخصوص أي قانون أو قرار، يجوز لنا الجزم بأنها لا توجد البتة في أي نظام سياسي مهما كانت سياسته، بل حتى لوكان نموذجا في تطبيق الحريات واحترام الأليات الدستورية من قبيل الاقتراع العام وتعميم التصويت كوسيلة لأشراك المواطن في اتخاذ القرار ومد البرلمان بأليات مراقبة العمل الحكومي. كالإحاطة والأسئلة الآنية ومسالة الثقة التي قد تؤدي إن تحققت شروطها إلى إسقاط الحكومة. وفي هذا الصدد نشير إلى خلاصة الفقيه الدستوري روزنفالون Rosanvallon التي شدد فيها في كتابه "الديمقراطية المبتورةLa démocratie inachevée « على عدم تـحقيق الديمقراطية في صيغتها التمثيلية.
 
وهذا التطور لن نستطيع استيعابه إن لم نستحضر التحول الجوهري الذي أصاب النخب السياسية منذ أن تغير النظام العالمي بفعل سطوة المال على السياسة عند نهاية العقد الأخير من القرن الماضي. فقد اندثرت منذئذ تدريجيا القيم الأخلاقية التي ظلت على أي حال تتحكم في سلوك أغلب القادة السياسيين السابقين، ليظهر جيل جديد من هؤلاء من أمثال "نيكولا ساركوزي" مع قضية تمويل حملته الانتخابية من طرف معمر القذافي و"بيل كلنتون وفضيحة لوينسكي" و"دونالد ترامب" وتهمة التزوير الانتخابي و"توني بلير" وتواطؤه السافر مع "جورج بوش" في حربه ضد صدام حسين في ضرب صارخ لقواعد الدولي و"إيمانويل ماكرون" وانبطاحه امام الولايات المتحدة، هذا دون الحديث عن بعض السياسيين البارزين الذين يجترون وراءهم فضائح مالية كوزير الميزانية الفرنسي "كاهوزاك" او أخلاقية ك"دومينيك ستروسكان" الذي كان الأوفر حظا للفوز بمقعد الرئاسة...مع التذكير بأن كل هؤلاء مع ذلك تمت مساءلتهم قضائيا.
 
من هذا المنطلق راعني ما شاهدت وسمعت في المغرب، وأنا أتابع إحدى جلسات البرلمان بغرفتيه من مداخلات جل أصحابها يعانون من أمية مقرفة في أبجديات القانون ولا يفرقون بين نوعية الأسئلة التي يختص بها البرلمان وتلك التي لها طابعا محليا، بل إنهم لا يقدرون حرمة المؤسسة البرلمانية باعتبارها المجسدة لإرادة الناخبين. ذلك أن ما يهم هؤلاء هو الظهور في صورة الأبطال المغاوير الذين يرفعون أصواتهم ويحتكرون الكلمة في ضرب مطلق لقواعد النظام الداخلي للمجلس. هم يعرفون أنهم لا يمثلون الناخبين إذا ما استحضرنا كيفية وصولهم إلى قبة البرلمان، لذا ليس غريبا أن يصطفوا إلى جانب الحكومة ولو ضد أماني ناخبيهم حتى تتحقق مصالهم الشخصية.
 
يذكرني هذا الواقع بمقولة منسوبة ل "جورج برنارد شو" يقول فيها بأن "الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل، لأن أغلبية من الجاهلين ستحدد مصيرك". وهذ الرأي بدوره ينسجم مع الادعاء القائل باستحالة الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة حيت يكون الولاء للفرد وليس للبرنامج، وهي معضلة بنيوية لطالما استغلها رجل السياسة عبر شراء أصوات الناخبين في حال افترضنا تحقيق النزاهة في التصويت. هناك اعتقاد سائد ببين البرلمانيين حول مضمون الديمقراطية ينحصر في الأغلبية العددية التي تجعلهم لا يداومون على الحضور إلا وقت تمرير المشاريع القانونية، طبعا بعد أن يتلقوا الأمر من أحزابهم وكثيرا مالا يكونوا على اطلاع بمضامين هذه المشاريع. وهذا الانحراف هو الذي يزيد من ريبتنا في حكومة السيد عزيز أخنوش ومن يجتر وراءه من أعيان وذوي المصالح الذاتية الذين يتحولون إلى بيادق لا تعي بأن دورها أن تعبر عن صوت الناخبين لا أن تكون حكومة ثانية تزكي كل القرارات المملاة عليها. أخطر من هذا يبدو أ نها نصبت نفسها ضد المجتمع في حين لزم أن تكون في خدمته. وإلا كيف نفسر الردة القوية التي عرفها المجال الحقوقي والفضائي التي شكلت ضربة في الصميم لكل المكتسبات السابقة على نذرتها. لنتذكر أن أول إجراء قام به السيد رئيس الحكومة بعد تعيينه هو إسقاط قانون الإثراء غير المشروع.
 
ألا ينم هذا الفعل عن "سوء نية" ما دام الحديث جاريا بخصوص مشروع تعديل قانون المسطرة المدنية، حول تعريف سوء النية؟ فمن البديهي أن يترتب عن هذا السحب تنامي لوبيات الفساد بعد أن اطمأنوا لغياب المحاسبة.
 
صحيح أن الأوراش الملكية قد سمحت بتطوير هائل في مجالات اقتصادية ولوجستيكية عدة خصوصا على مستوى البنى السفلى، لكنها بالموازاة لم تفعل على مستوى الاستثمار البشري. فظل الانسان المغربي، بحكم تدني مستويات التعليم وصعوبة العيش وضعف التنشئة السياسية، خارج مستلزمات التطور الفكري الكفيل بتهيئته وتنمية حسه الوطني بتلقائية، ليصبح مواطنا في دولة لا مجرد عنصر في مشيخة أو قبيلة. وهنا تكمن أزمة المغرب العميقة ومأساة الحكومات التي تناوبت على السلطة منذ الخذلان الذي اقترفه عبد الرحمان اليوسفي وقبله السيد عبد الإله بنكيران اللذين ساهما في تكريس ما جاءا مبدئيا من أجل مقاومته أو على الأقل تصحيحه.