اهتمت النخبة في المغرب بالانتخابات التشريعية الفرنسية التي انتهت أطوارها الأحد 7 يوليوز 2024، حيث احتلت الجبهة الجديدة المرتبة الأولى والتحالف "الماكروني" الرتبة الثانية واليمين المتطرف الرتبة الثالثة. وبذلك يكون الوعي الفرنسي قد وضع مرة أخرى اليمين المتطرف في مرتبة دون تحقيقه أغلبية مطلقة. واختار الوعي الفرنسي من يكون في المقدمة من بين الأحزاب المتنافسة، لتظل فرنسا وفية للقواعد الديمقراطية الحقة.
الوعي الذي ينتظره العالم المتحضر من الشعب الفرنسي حتى تكون فرنسا الدولة التي تدافع على القيم الانسانية وحقوق الإنسان وعلى حرية الشعوب واستقلالها. وحتى لا تسقط في الشوفينية والتمييز العنصري والعرقي والعودة الكاملة إلى ركب الدول التي تساند الشعوب المضطهدة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني. إن الإنتخابات التشريعية هذه تظل نتائجها لفرنسا و للفرنسيين ويظل الفرنسيون لفرنسا و مخلصون "لفرنسا هم" وهم يحتكمون إلى الديمقراطية درءا لكل هيمنة مطلقة أو استبداد أو العودة إلى ما قبل الثورة (1789 ).
وهنا نطرح السؤال: لماذا اهتم المغاربة بهذه الانتخابات؟ هل لوجود روابط ثقافية واقتصادية واجتماعية وعلاقات استراتيجية؟ أم هناك أمل في أن نسقى نحن كذلك من عين الديمقراطية التي جعلت الجبهة الجديدة، التي هي عبارة عن تكتل أحزاب تقدمية ويسارية في المرتبة الأولى وتستطيع تكوين جبهة قوية تتزعم الانتخابات التشريعية والجماعية؟
إنها تساؤلات تحتاج إلى توضيح. حتى لا نبتعد عن واقعنا إلى واقع لسنا منه و لا هو منا و ذلك من خلال ما يلي :
أ-إن مصطلح اليمين في فرنسا هو مصطلح سياسي يرجع أصله إلى الثورة الفرنسية 1789م والتي كانت بداية ثقافة سياسية بديلة حسمت في الخلط بين المواقف والإتجاهات. حيث كان مصطلح اليمين يعني النواب الذين كانوا يجلسون إلى اليمين في البرلمان وكانوا موالين للملكية. وظهوره كقوة سياسية بمشروع يرمي إلى الإيمان بالتفاوت الطبقي باعتباره أمرا طبيعيا وأيضا يؤمنون بوجوب وجود طبقة فقيرة وطبقة غنية وطبقة متوسطة، وأن أنصار التيار اليميني بكل تفرعاته كانوا غالبا يدعون إلى التدخل في حياة المجتمع للحفاظ على تقاليده، على النقيض من تيار اليسار، الذي يدعو إلى فرض المساواة بين أفراد المجتمع الواحد. ويظل اليمين الفرنسي يدعو إلى تعزيز وتمتين هيكل النظام القائم على عكس الأجنحة اليسارية التي تدعو إلى تغيير جذري للأنظمة والقوانين القائمة
ب-اليسار الفرنسي هو مصطلح سياسي يعني عكس اليمين، كان يمثل النواب الذي يجلسون على اليسار في البرلمان الفرنسي، فاصبحوا يمثلون تيار التغيير ومقاومة الهيمنة والفوارق الطبقية و مساندة الطبقة العاملة ..إذن هل يمكن أن يكون لنا مناخ سياسي كالذي هو في فرنسا ،الذي تتحكم فيه الأحزاب السياسية والنقابات الديمقراطية ؟ قبل الجواب على السؤال استحضر كلمة الراحل المرحوم أحمد بنجلون في ندوة داخلية بقلعة السراغنة في مارس 1983 حول التشكيلة الإجتماعية حيث جاء في سياق كلمته " إن الاشتراكية العلمية ليست حذاء له قياس موحد يناسب كل أرجل رجال العالم، إنما هي أداة للتحليل وكهدف.."
إننا في المغرب نفتقر الى مجموعة من الشروط لنربح الرهان كما هو الشأن في فرنسا. ومن هذه الشروط:
أولاـ الشرط الديمقراطي، إننا نفتقر إلى الديمقراطية الحقة التي تمكن الشعب من حقه في تقرير مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمساواة بين الحقوق والواجبات وربط المسؤولية بالمحاسبة ..
ثانيا- لا وجود ليمين وطني في بلادنا كما هو في فرنسا، لأن ما يمكن تسميته باليمين في المغرب هو فقط تجاوز سياسي و تعسف على المصطلح ، لأن الأحزاب التي نقول عنها باليمينية في المغرب ما هي إلا مجموعة أعيان ظلوا رهن إشارة المخزن في حله وترحاله . وهم أغنياء الريع الذي دشنته فرنسا إبان استعمارها للمغرب، وليس لهم حس وطني ولا مبادئ سياسية إلا الولاء للحكام. ويستعملهم النظام للحفاظ على أركانه التي تتجلى في البيعة والطاعة والهيبة والسلطة، ومن بينهم شكل الأحزاب والجمعيات والزوايا حتى لا تظهر قوى سياسية مناهضة وفي مقدمتها اليسار. لأن اليسار المغربي يستمد شرعيته من حركة التحرير الشعبية ويواجه النظام وليس اليمين كما هو في فرنسا. وله مشروعه الذي يهدف إلى التغيير الجذري للنظام السياسي وبناء الدولة الديمقراطية التي قوامها الديمقراطية والعدالة والاجتماعية وفصل السلط. لقد تبنى اليسار إيديولوجية الكادحين في الداخل والخارج التي تتجلى في الاشتراكية العلمية، كمنهجية للتحليل، تحليل الواقع الملموس، كهدف والوقوف على حقيقته ونتائج سياسة النظام الحاكم و هوية أصحابه كخدام التبعية، والمستفيدين منها وظلوا أعداء للتحرير الحقيقي خوفا على مصالحهم .
فاليسار هو الوحيد الذي من طبع انتماءه ومبادئه يعبر عن إرادة الجماهير الشعبية، وهو لا يصارع اليمين المخزني أي اليمين النظامي بل ظل في صراع مستمر مع النظام واقعيا وعلى مستوى الساحة بصدر مكشوف لرصاصه بدون ذروع، وبشعاراته الواضحة منذ الاستقلال وبدون خوف ولا خشوع. لذلك استعمل النظام ضد هذا اليسار بكل مكوناته كل أساليب القمع والاختطاف والاغتيالات والمعتقلات السرية وكل أشكال الإقصاء والقهر والنفي خوفا منه أن يتقوى وتقتنع الجماهير الشعبية بتوجهه واختياراته، مما قد يؤدي إلى تغيير جذري للنظام السياسي بالبلاد.
ولذلك يظل اليسار محاصرا وممنوعا من الصرف السياسي من طرف النظام الحاكم، حتى لا يتطور وتتقوى كتلته وشوكته. ويستمر النظام في خنقه والتسبب له في متاعب التفرقة والتشرذم.
إذن فإن الصراع السياسي في فرنسا هو بين اليمين وحلفائه من أحزاب ليبرالية وغيرها، وبين أحزاب يسارية ومن يتحالف معها في ملعب الانتخابات التشريعية أو الرئاسية. لكن في بلادنا الصراع هو في حد ذاته مع النظام السياسي وفي غياب شروط ديمقراطية حقيقية تجعل اليسار يضع برنامجه على طاولة الاختيار الجماهيري.
إن اليسار في المغرب رغم امتداداته العلاقاتية في أوروبا و في بعض دول أمريكا الجنوبية ،لم يستفد من تجارب بعض هذه الدول التي حققت الديمقراطية بالمصالحة مع الجماهير الشعبية و تقوية العلاقة مع الطبقة العاملة، بالرغم مما يمتلكه من زخم نظري وما راكمه من تجارب جد مهمة في الصراع الاجتماعي على أرض الواقع ، فإنه لم يستفد من التجربة الرائدة للتحول الديمقراطي الذي عرفته دول أمريكا اللاتينية لوجود تشابه في محددات وركائز التغيير، التي أظهرت للعالم أجمع أن أزمة الفكر والقطبية والنموذج الواحد قد انتهت، والتخلي عن سياسة الرفض لكل ما هو وارد بل الاستفادة من آلياته الديمقراطية وقيمه الراقية بدون انصهار وذوبان قد تتولد عنهما تبعية واضطرابات مجتمعية، بل من أجل الارتقاء إلى رقي العصر انسجاما مع أصالة وقيم الشعب المغربي ، لأن اليسار هو الذي يظل يحمل مشروع التغيير من خلال جدلية النضال ومن خلال التغييرات التي طرأت على الساعة الجماهيرية نفسها .
يمين فرنسا ليس هو يميننا في المغرب، وأن صراع اليسار سيظل مع النظام السياسي، وليس مع خدامه من أحزاب ريعية نفعية ومن أعيان يبحثون عن السلطة بالمجان.