إن التحول نحو اليمين المتطرف في أوروبا أصبح مسألة وقت فقط. فساعة التموج الكبير آتية لامحالة. ذلك أن أوروبا فقدت شرعية قيم الحرية وحقوق الإنسان المزيفة، وسقطت عنها كل الأقنعة التي كانت تخفي تسلطها في الخارج وفي الداخل. وظهر أن اليمين المتطرف هو الحقيقة التاريخية التابعة والراسخة في الغرب عامة بل إنه هو التعبير السياسي الصادق في مواقفه على تطرفها وفي موقعه على لا إنسانيته. وهذا حال فرنسا بكل تأكيد التي أصبحت عاصمة السخافات بتميز بعد أن ظهر أنها زعيمة الاستعمار والحليف الإيديولوجي الأول لإسرائيل.
لقد مرت عدة محطات انتخابية لعب اليسار فيها دور الكومبارس وكأنه غير قادر على لعب الأدوار الأولى والأساسية في حكم الدولة وحماية الجمهورية وقيمها التاريخية من التآكل لقطع الطريق عن التطرف حتى بدأ اليسار أنه صاحب شعارات مدغدغة للفرنسيين ومواقف غير راشدة. لقد ظل اليسار أداة في يد الوسط يوظفه بإيعاز من النتائج السلبية له كي يقطع الطريق عن اليمين المتطرف ويصده عن الوصول إلى قصر الإليزيه.
لقد كان اليسار دائما يكتفي بتجهيز الحصان لأنصار ماكرون يعتلون عليه ويخوضون به سياسات فاشلة لا يستفيد منها اليسار وتحدي اليمين المتطرف. وهذا ما عبرت عنه ماري لوبين حين ظهرت الانتخابات قائلة بأنها خسرت الانتخابات بتوظيف تكتيكي لليسار. وهي نكاية في اليسار بأنه لا يستحق الحكم وغير أهل له حتى وإن فاز.
في ظل هذا الوضع السياسي الذي خيم على السياسة الفرنسية لعقود حتى أصبح مزمنا وكاد يصير قدرا، جاء ماكرون المنقذ سابقا ليغرق سفينة فرنسا ومعها الوسط في عدة معضلات تحول الكثير منها إلى أزمات مستعصية بسبب شعبويته واختزال السلطة فيه وفي شخصه. ذلك أنه اتخذ قرارات مجحفة وخاض معارك ضارية خاسرة مع الطلبة والنقابات ومع عدة فئات، وأطلق أيادي الداخلية والأمن على مختلف الفئات وجعل منها سنده وذراعه الأيمن حتى ارتكبوا مجازر في الشعب وأصبحوا فوق السلطة. وهذا وضع غير مألوف بفرنسا. كما همش البرلمان والمؤسسات ولجأ لقوانين لم تحركها فرنسا سياسيا لأزيد من نصف قرن.
هذا الموقع الغامض للوسط والمقلق لليسار والمحفز لليمين أصبح أكثر تهديدا للجمهورية ولمكتسبات الفئات الضعيفة فيها بكل مصالحها. وقد تأكدت نتائجه في الدور الأول من الانتخابات حيث جاء اليمين المتطرف في المرتبة الأولى. ولعل هامش الفرق الصغير بين اليسار وبين اليمين المتطرف من جهة والفرق المهم بين كل منهما وبين الوسط من جهة أخرى، دفع اليسار إلى الاستفادة والنهوض من سباته لاسترجاع ادواره التاريخية ولعب الدور المناسب له في المشهد السياسي الفرنسي.
وبدا واضحا أن أقصر وأنجع طريق هو التوحد وحشد القوى في وتقويض التشتت. فرسالة الدور الأول من الانتخابات كانت واضحة بأن الوسط لم يعد هو المنقذ. بل أصبح هو المشكل مشخصا في الرئيس ماكرون المعضلة وإن اليمين المتطرف ليس هو البديل الحقيقي المنشود من طرف الفرنسيين لأن اليمين المتطرف ورغم أزمات الوسط وسقوط شعبية ماكرون لم يتقدم كثيرا كما كان يجب وظل في مكانه مقارنة مع الانتخابات السابقة.
بيد أن المشكلة ظلت في تشتث اليسار الذي عقد وصعب اختيارات الناخب الفرنسي.فكان على اليسار أن يسهل المهمة على الناخب الفرنسي ويبادله التحية بأحسن منها عبر رص الصفوف وتقليص المرشحين وتجميع التصويت في كثل وازنة ومعبرة. فتفاعل الناخب الفرنسي من مختلف ألوان الطيف مع المهمة التي لم تكن صعبة أمام استراتيجية الطموح الأكبر للوصول إلى الاليزيه بسد الطريق عن الوسط وصد الباب عن اليمين المتطرف المنتشي بفوز صغير سرعان ما خاب.
كل هذه المعطيات والمحفزات وغيرها كثير هي المحددة والمسؤولية عن مستقبل فرنسا بالمغرب بغض النظر عن ساكن الايليزيه. فالبراغماتية هي سيدة السياسة اليوم، والمغرب يستحود أكثر من غيره و من خصومه حراس المعبد الاستعماري وخرائط سايس بيكو ومناورات فرنسا على أكثر من معيار.
كما أن علاقة المغرب بفرنسا لا تدار في دائرة ثنائية مغلقة ولم تعد تقاس بالكبير ولا بالصغير وإنما تدار في مسرح مفتوح وبتوازنات إقليمية ودوليةجديدة لا تتحكم فيها فرنسا وحدها التي أصبحت تلعب فيها دورا جد محدود. ولعل فرنسا هي التي في حاجة اليوم سياسيا واقتصاديا للمغرب في إفريقيا أمام صعود قادة أفارقة جدد بآفاق جديدة وفي شمال المغرب بحكم كل المخاطر والتحديات ومن أجل الحصة الفرنسية من المشاريع بمغرب 2030. بينما يظهر أن ماكرون قد جرب معاندة المغرب والميل الكلي للجزائر، فلم تثمر له سياسة الغاز الجزائر غير المشاكل رغم كل المناورات الأوروبية والأكاذيب والتقارير الاستخبارات الفرنسية لمحاربة المغرب وتقزيم أدواره والحد من تطوره ومن منافسته ومن طموحاته المشروعة.
لقد عاد ماكرون بعد 3 سنوات من التنطع والمكر والضرب تحت الحزام وتسخير مختلف أدوات ليخطب ود المغرب ويستنجد به للحفاظ على المصالح الفرنسية بأفريقيا.
وأظهرت التجربة أن فرنسا لا مفر لها من اتباع نموذج العلاقة الإسبانية المغربية كحل واحد ووحيد.
وهذا الطريق هو المسار والقدر المقدر لكل من سيسكن قصر الايليزي مستقبلا حتى ولوكان ماكرون نفسه. ولعل اليسار أو اليمين المتطرف لن يطيل أي منهما الوقت ولن يضيع النقاش ولن يستهلك الاستشارات في الابتعاد كثيرا عن المغرب كما فعل ماكرون. ولهذا، فتطور الموقف الفرنسي نحو المصالح المغربية والخروج من دائرة الماضي وما كان يسمى الأزمات التقليدية قد ولت وانتهت. وما التعبير عن غيرها والتصريح به إلا مسألة وقت قصير جدا.
أما البناء على مواقف اليسار من نظام الدوغمائيات القديمة ذات الصلة بنظام الحكم المغربي أو بحقوق الإنسان أو بالاشتراكية فمجرد فقاعات فارغة بميزان ومعايير الوقت الراهن. وإذا كتب لها أن تحكم المواقف والسياسة الفرنسية تجاه المغرب، فلن تكون سوى عمى سياسي سيزيد من فشل فرنسا في إفريقيا وإخراجها كليا ونهائيا منها وتفويت حصتها لروسيا والصين و أمريكا و ألمانيا..
يبقى القول، بأن محددات المستقبل المفيد للعلاقات الفرنسية - المغربية أغلبها بيد المغرب لأن الوقت لم يعد بيد فرنسا كما كان من قبل.
ادريس قصوري/ المحلل السياسي