في الوقت الذي يتوجه الناخبون الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد 7 يوليوز 2024 لاختيار ممثليهم في الدور الثاني للانتخابات التشريعية التي جرى دورها الأول في 30 يونيو الماضي، تطرح عدة أسئلة على مستوى الأداء الديمقراطي في هذا البلد الأوروبي الذي جعل من مبادئ الحرية والمساواة والأخوة شعارا وطنيا له منذ أواخر القرن التاسع عشر والذي يرجع أصلا شعار الثورة الفرنسية.
33,14 بالمائة من الأصوات (10,6 مليون صوت)، وانتُخاب 39 نائبا التي حصدها اليمين المتطرف ممثلا في " التجمع الوطني" وحلفائه في الجولة الأولى من هذا الاقتراع، يعود في حقيقة الأمر الى الفشل الذي راكمه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وتوجهه في التاسع من يونيو 2024، بقرار حل الجمعية الوطنية ( البرلمان )، والدعوة إلى اجراء انتخابات تشريعية مبكرة، على خلفية فوز حوب التجمع الوطني ( يمين متطرف ) في انتخابات البرلمان الأوروبي بحصوله قائمته على 31،36 بالمائة من الأصوات وهزيمة ائتلاف " معا " الرئاسي.
وبعيدا عن هذا " الزلزال السياسي الأكبر" في عهد الجمهورية الخامسة، تكون بلاد مونتسكيو وفولتير، وهيغو، وكامو وسارتر، آخرون قد دخلت الى "حلف " الشعبوية اليمينية من بابه الواسع والذي أصبحت تمثله كلا من حكومات إيطاليا وهنغاريا وأخيرا هولندا. كما كشف " النقاش" بين الأحزاب السياسية ومعها وسائل الاعلام، من جهة عن العقم والتكلس الذى أصاب المزاج السياسي والإعلامي الفرنسي، الذي كان الى وقت قريب نموذجا يحتذى به .
ومن تجليات هذا الانغلاق الفرنسي، سيادة عقلية عنصرية، ما انفكت تتوسع، ومعها على المستوى الخارجي التماهي المطلق مع ما ترتكبه حكومة الاحتلال الإسرائيلي من حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني بغزة، وكأن غالبية الطبقة السياسية الفرنسية حولت ذلك الى " منظار" في حكمها على أي سلوك مخالف، ومنتقد للعدوان البربري المتواصل لجيش الاحتلال بدعوى " معاداة السامية"، و" حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
وعلى نفس النهج، سارت غالبية وسائل الاعلام الفرنسية - كما هو شأن نظيرتها الغربية- في الانحياز السافر لسياسة الاحتلال الإسرائيلي وتعميم روايات مضللة، اعتمادا على سردية حكومة الحرب اليمين المتطرف الصهيوني بقيادة بينامين نتنياهو، سعيا لتبرير حرب الإبادة التي تستهدف الفلسطينيين بغزة، وشيطنة المقاومة، التي تواجه آلة الحرب منذ السابع من أكتوبر 2023 التي أسفرت لحد اليوم عن استشهاد أزيد من 38 ألف شخصا وأكثر من 847 ألف مصابا.
فباستثناءات قليلة منها بالخصوص حزب " فرنسا الأبية" وفي مقدمته جاك ميلانشون، وطلاب الجامعات، التي دعت الى الوقف الفوري لحرب الإبادة التي تستهدف غزة المحاصرة، وادانتها - كما هو شأن الشارع الغربي- للعدوان الإسرائيلي، فإن غالبية " النخبة السياسية"، وإن كانت في حملاتها الانتخابية، تركز على الشأن المحلي، فإنها تكاد تجمع على وصف أي مطالبة بوقف العدوان، والتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني بأنه " معاداة للسامية".
وهكذا كشفت الحرب على غزة عمق الأزمة الأخلاقية المهنية التي يعيشها معظم الاعلام الغربي في نمط معالجته للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي واحتلال الأراضي الفلسطينية، كما جاء في افتتاحية العدد الأخير لدورية " الجزيرة" الصادرة عن مركز الجزيرة لدراسة الاتصال والإعلام، بعنوان " هندسة الإبادة الإعلامية في غزة والتأطير الإخباري للحرب في الإعلام الغربي" مؤكدة أن الخطاب الإعلامي الغربي، يتماهى مع الرواية الإسرائيلية في بنية التلفظ والملفوظ، داعما لأطروحتها السياسية والأيديولوجية عن " إسرائيل الضحية" التي لها " الحق في الدفاع عن نفسها" لمواجهة حركات " إرهابية تهدد وجدها المستقبلي.
ولم يعد خافيا على الجميع، السيطرة المباشرة للوبي الصهيوني الإسرائيلي على الخطوط التحريرية لغالبية وسائل الاعلام الفرنسية خاصة منها البصرية، وتدخله في عملها حينما يتعلق الأمر بمجريات القضية الفلسطينية. ومن بين الأمثلة على ذلك مطالبة السفارة الإسرائيلية بباريس مؤخرا بإلغاء بث تحقيق تلفزيوني حول ضحايا العمليات العسكرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، كانت قد أجرته مؤخرا إحدى قنوات التلفزيون العمومي الرئيسية، بثته ضمن أحد برامجها، وخلق آنذاك - وهو ما يغيب حاليا -جدلا ونقاشا كبيرين على الساحة السياسية وفي وسائل الإعلام الفرنسية ووسائط التواصل الاجتماعي حول إشكالية هيمنة اللوبي الإسرائيلي ببلاد كثيرا ما تتغنى بأنها مهد حقوق الإنسان والحريات ومنها حرية الصحافة الإعلام.
وكانت القناة الثانية العمومية، قد أدرجت هذا الروبورتاج ضمن برنامج ) " مبعوث خاص Envoyé spéciale " الذي سلط الضوء على وضعية العديد من الفلسطينيين المصابين بالرصاص الحي لقوات الاحتلال، خلال مشاركتهم في مسيرات العودة في قطاع غزة. وتوقف التحقيق عند حياة عدد من المدنيين الفلسطينيين الذين بُترت سيقانهم جراء تعرضهم لرصاص قوات الاحتلال الاسرائيلي، ومنهم أحد الشبان الذى نقلت القناة الفرنسية قوله بتأثر وألم بالغين، أنه كان يحلم قبل اصابته بنيران الاحتلال، أن يكون ضمن المنتخب الفلسطيني لرياضة سباق الدراجات الهوائية ".
إلا أن القناة الفرنسية الثانية، وعلى خلاف ما يلاحظ في هذه المرحلة، وبجرأة نادرة، ورغم الضغوطات القوية التي مارسها اللوبي الاسرائيلي بفرنسا من خلال تجمعاته ومؤسساته الدينية والإعلامية، لم تعر أي اهتمام لهذا الطلب الإسرائيلي الغريب على المجتمع الفرنسي، تعليق البث، بل قامت ببث التحقيق الذي ادعت الديبلوماسية الإسرائيلية في رسالتها أنه “يحرض على الكراهية ضد إسرائيل" يل تمادت في ادعائها بأن هذا البرنامج "يمكن أن تكون له انعكاسات سلبية مباشرة على السلامة الجسدية للفرنسيين من ديانة يهودية".
نتقد عدد من السياسيين الفرنسيين في برامج بالقنوات التلفزيونية ومحطات إذاعية فرنسية، على عكس ما نراه اليوم في الحملات الإعلامية للهيئات السياسية، وتصريحات الخبراء والفاعلين الإعلاميين والسياسيين، لجوء قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلى استخدام الذخيرة الحية في مواجهة الفلسطينيين العزل المشاركين في مسيرات العودة، وذلك في خرق سافر لقواعد القانون الدولي الذي يحرم إطلاق الرصاص الحي في مثل هذه الحالات التي كان خلالها المتظاهرين بعيدين حتى عن حاجز الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل بقطاع غزة.
وهنا يمكن التساؤل هل، سيتمكن الاعلام الفرنسي، تجاوز بعد اجراء الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التي تجمع استطلاعات الرأي على أي تشكيلة السياسية من التشكيلات الثلاث ( اليمين المتطرف وجبهة اليسار واليمين التقليدي )، على الأغلبية المطلقة، " الوعي الشقي" الذي تشعر به غالبية النخبة الفرنسية تجاه إسرائيل واستعادة ساسية التوازن الذى سار عليه عدد من قادة فرنسا في تعاملهم مع القضية الفلسطينية ومعها قضايا الشرق الأوسط، وأن تكون لهم الجرأة الكافية وقبلها الموضوعية التي يتطلبها العمل الإعلامي، في التعامل مع القضية الفلسطينية ومواجهة ضغط اللوبيات السياسية والاقتصادية والتجارية الاسرائيلية؟...