شكل قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، صدمة كبيرة بسبب المخاوف من اكتساح اليمين العنصري وتنامي التجاذب السياسي بين الأحزاب، التي اعتبرت غالبيتها أن القرار المفاجئ يفتح الأفق على المجهول، ويهدد مكتسبات "الجمهورية الخامسة"، ويمنح اليمين المتطرف فرصة الاستفراد بالسلطة، "ديمقراطيا" عن طريق الانتخابات، لينفذ برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي يغلب عليه العداء للأجانب، المسلمين والعرب و الأفارقة خاصة، و يتميز بتسفيه لحقوق الفرنسيين من أصول أجنبية الذين يعتبرهم حزب مارين لوبين و جوردان بارديلا غير مستحقين لكامل مكتسبات المواطنة، من منطلق أنهم ليسوا أبناء "فرنسا الأصيلة".
وفي غياب تفسير حقيقي يوضح سبب اتخاذ الرئيس الفرنسي لهذا القرار غير محسوب العواقب، يبقى المتاح لكل المهتمين بالنموذج الحزبي الفرنسي هو متابعة تفاصيل المشهد السوريالي الذي أفرزه الدور الأول من الانتخابات التشريعية، بتأكيد احتمال فوز اليمين المتطرف بأغلبية كبيرة، بل ربما أغلبية مطلقة تمكنه من الاستفراد بالسلطة التنفيذية، ثم الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، يغادر بموجبها ماكرون منصبه، ليتحكم اليمين المتطرف في كل السلط.
بمعزل عن النتائج والآفاق السياسية الممكنة، ما يثير الانتباه بشكل كبير في ما تعرفه فرنسا، هذه الأيام، هو أن قصر المدة الفاصلة بين يوم اتخاذ قرار حل البرلمان و تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، و بين يوم الاقتراع (أي أقل من شهر...!!!)، لم يمنع الأحزاب السياسية من النجاح في تحفيز اهتمام الفرنسيين بالانتخابات، وإقناعهم بضرورة المشاركة واختيار مرشحيهم، حيث بلغت نسبة المشاركة 66.7 %، مقابل 47,5 % سجلت في الدور الأول من الانتخابات التشريعية لسنة 2022، أي بزيادة 19,2%.
طبعا، لا حاجة هنا للقول بأن قوة المشاركة في الانتخابات الفرنسية، هي تعبير حر من المواطنين عن آرائهم السياسية وقناعاتهم، وليست تفاعلا مع "بلطجية" يدفع بهم المرشحون ليقنعوا الناخبين بتحفيزات من فئة 20 يورو للشخص، تعوضهم عن ضعف جاذبية البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يحملها كل حزب.
ويبقى موضوع ارتفاع المشاركة، بما يرمز إليه من قدرة الأحزاب الفرنسية على تفعيل النقاش العمومي وخلق الجدل السياسي الإيجابي، واعتماد استراتيجيات تواصلية يضعها خبراء كل حزب، من النقط التي تثير الانتباه في النموذج الحزبي الفرنسي، إضافة إلى ما يلعبه الإعلام من أدوار هامة في تعزيز الوعي السياسي، ولو أن جزء من الإعلام تماهى مؤخرا بشكل غير معقول مع طروحات اليمين المتطرف، وروج لها في القنوات المملوكة لأصحاب الثروات الكبرى في البلاد بصفة خاصة.
بكل تأكيد، ونحن نتابع ما يجري من تجاذبات انتخابية في عدد من الدول الغربية، وما هو مستمر من توترات جيوستراتيجية تعرفها عدد من المناطق عبر العالم، علينا أن ننتبه إلى واجب تجديد مقاربتنا لأدوار الأحزاب في بلادنا، وتحليل عوامل القوة التي تجعل هيئات الوساطة السياسية في الديمقراطيات الغربية (والنموذج الفرنسي ليس إلا واحدا من بينها!!) قادرة على إحياء السياسة في رمشة عين، واسترجاع ثقة المواطنين في الفعل السياسي وتشجيع الناس على المساهمة في توجيه بوصلة التدبير العمومي عبر اختيار من يستحقون تمثيلهم في البرلمان، ضمن معادلة تدعو إلى التفكير العميق في واقعنا الحزبي والإسراع بمعالجة أعطاب حياتنا السياسية.
ولا بأس، في هذا السياق، أن نستحضر موعد محطة انتخابات تشريعية جديدة، سنصلها بعد سنتين على أقصى تقدير، في واقع لا يحظى فيه السياسيون والمنتخبون بالثقة المطلوبة، بسبب توالي أخبار فساد ذمة عدد من "ممثلي الأمة" ورؤساء الجماعات الترابية، واستمرار الحياة الحزبية في إنتاج مشهد كاريكاتيري يجمع بين رداءة الخطاب السياسي، والاختلالات التنظيمية، وغياب الالتزام بالديمقراطية داخل الأحزاب بشكل لا يتيح إفراز نخب تمتلك الكفاءة والأخلاق والكاريزما الضرورية لتأطير المواطنين والمساهمة في تدبير الشأن العام.
بالتالي، من المنطقي أن نتساءل عن السبيل الممكن لنحدث زخما شعبيا من الانخراط والمشاركة السياسية التي تقوي ديمقراطيتنا وتتيح لنا، نحن أيضا، تسجيل مشاركة قوية في الانتخابات المقبلة، تكون تعبيرا عن العودة للتأطير المؤسساتي الذي يتيح التفاعل مع قضايا الوطن، ضمن ديناميكية يلعب فيها التجاذب الحزبي دوره في تمكين المواطنين من التعبير عن اختياراتهم السياسية، والدفاع عن النموذج التنموي الوطني، والمطالبة بتحديث أسلوب تدبير الشأن العام، وتطوير جودة تشريعات البرلمان، وتعزيز قدرة المنتخبين جهويا و محليا، على تدبير التنمية والمجال، وفرض وزراء أكفاء قادرين على صياغة سياسات عمومية فعالة، والعمل بمنطق تشاركي يحقق طموحات الناس في تحسين واقعهم و الدفاع عن مصالح الوطن.
وفي انتظار أن تتبلور أجوبة عن هذا السؤال الكبير، لا بأس من التنبيه إلى ضرورة أخذ عامل الوقت بما يلزم من اهتمام، على اعتبار أن ما يفسده الفعل الحزبي السياسوي أو التدبير الفاسد، في أسابيع، يحتاج إلى أشهر وأشهر من العمل الميداني والتواصل الجاد مع المواطنين / الناخبين، والحوار البناء معهم والإنصات الصادق لهم، لإحياء ديناميكية النضال والتأطير السياسي، وترميم البناء التنظيمي الحزبي، إن نحن كنا حقا نريد التصحيح والتصويب والتأهيل، وإفراز نخب جديدة تتميز بكونها نظيفة وكفؤة وغيورة على ثوابت الوطن.
مهما سفه البعض السياسة وأدوارها، سيظل الفعل السياسي ضروريا لتعزيز البناء المؤسساتي وتحفيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أسس المشاركة والديمقراطية. وإذا كان المواطنين قد سئموا من أفعال بعض السياسيين والمنتخبين ممن قال عنهم جلالة الملك، سنة 2015، أن كثيرا منهم "يظنون أن دورهم يقتصر على الترشح فقط، وليس من أجل العمل. وعندما يفوزون في الانتخابات، يختفون لخمس أو ست سنوات، ولا يظهرون إلا مع الانتخابات الموالية"، لا تزال السياسة حية رغم ذلك، ولازال المواطنون يأملون تغيير الأمور بما يؤمن للناس نخبا تثق فيها وتتحاور معها.
فهل سنرى الأحزاب الوطنية الجادة تتحرك لتنهض بمسؤولياتها، على أساس أن هدف وجودها هو تأطير المواطنين والانتصار لقضاياهم، وتستعد لتجسيد ما قاله ملك البلاد، قبل عقد من الزمن تقريبا، من أن "الهدف من الانتخابات لا ينبغي أن يكون هو الحصول على المناصب، وإنما يجب أن يكون من أجل خدمة المواطن فقط"؟