لما عزمت كوريا الجنوبية، التي أقمتُ بها عشرةَ أيام، في إطار زيارة رسمية، بإرادة سياسية قوية خلال الستينيات، أن تدخل من بابه الواسع عالمَ التقدم والتنمية بجميع مشاربها، قررت أن تقطع نهائيا مع الجهل والتخلف. في هذا الصدد، قامت الجهات المسئولة أو النُّخبة السياسية الحاكمة بتنظيمَ حملات طويلةَ المدى للقضاء على الأمية في جميع أرجاء البلاد. ولإنجاح هذه الحملات، تمَّ التخلي عن الكتابة بالرموز المعقدة والكثيرة العدد وإبداع أبجدية alphabet تتألف من 26 حرفا.
حينها، أصبح جل سكان البلاد متعلمين يُجِيدون الكتابة والقراءة في حين أُدخِلت تغييراتٌ جذريةٌ على النظام التعليمي ليصبحَ قادرا على إنتاج أجيال مواطنة متفتحة اجتماعيا، علميا، فكريا وثقافيا.
النتيجة نراها اليوم واضحة للعيان. بل تفرض نفسَها على العالم كله. السر في كل هذا أن كوريا الجنوبية أعطت الأهمية في سياساتها العمومية، أولا و قبل كل شيء، لبناء الإنسان قبل أن تصنع الأستاذَ والطبيبَ والمهندس والباحث و...
و هاهي اليوم تجني ثمارَ ما زرعته مند بداية الستينيات. لا أدخل في تفاصيل بناء هذا الإنسان لأن كل بلد له رؤيتُه الخاصة في هذا البناء. المهم هو أن بناء الإنسان الكوري الجنوبي هو الذي ساهم في ازدهار البلاد وتقدُّمها.
وللإشارة، في نفس الفترة، كان الناتج الداخلي الخام المغربي أكبر من الناتج الداخلي الخام الكوري الجنوبي. اليوم، لا مجال للمقارنة بين البلدين. فما هو السبب أو ما هي الأسباب في هذه المفارقة؟
حسب رأيي الشخصي، هناك سببٌ رئيسي لا ثاني له. لقد أيقنت النُّخبة السياسية أنه لا سبيل للتقدم والتَّحضُّر مع شعب جاهل وأُمِّي. لهذا، كانت أول خطوة قامت بها هذه النخبة هي القضاء على الأمية والجهل.
إنه لأمر غريب وعجيب. بلادُنا نالت استقلالها في النصف الثاني من الخمسينيات وبعد مرور ما يقارب 70 سنة على هذا الاستقلال، لا يزال أكثر من ثلث المغاربة أميين. بل إن منظومتَنا التربوية تسير من سيء إلى أسوأ، رغم الإصلاحات المتتالية التي خضعت لها. بل إن منظومتنا التربوية أصبحت تُنتج نوعا آخر من الأمية، أي الأمية التي تفتح البابَ على مصراعَيه لسيادة التفاهة والرَّداءة في الفكر والثقافة.
شيء لا يصدقه العقل! علما أن كوريا الجنوبية كانت مستعمرةً من طرف اليابان ورزحَت تحت وطأةِ عبوديةٍ لا تُطاق. فكيف تحوَّلت من مستعمرة مُستَعبَدة إلى قوة اقتصادية، علمية وتكنولوجية يُقام لها ويُقعد في جميع أنحاء العالم؟
الجواب على هذا السؤال بسيطٌ للغاية، ويتمثَّل في كون النُّخبة السياسية أدركت أن القوَّةَ الاقتصادية، العلمية والتِّكنولوجية لا تُمطرها السماء. وإنما يتمُّ بناءُها بالتَّدريج ويساهم فيها أبناءُ وبناتُ البلاد بوعيهم، بتربيتهم، بتعليمهم وتعلُّمهم ومستوى فكرهم…
وبعبارة أخرى، اتضح للنُّخبة السياسية أن الوعي والتربية والتعليم والتَّعلُّم والمستوى الفكري…، أمورٌ لا يأتي من فراغ. بل إنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بجودة الخدمات التي تقدِّمها المنظومة التّربوية للأجيال الصاعدة، أي أن تقدُّمَ البلاد رهين بالمستوى التعليمي والثقافي والتِّوعوي للشعب الكوري الجنوبي. علماً أن هذا المستوى لا يمكن فصلُه عن عقلية النُّخبة السياسية، أو بالأحرى، مَن انتدبتهم الشعبُ الكوري الجنوبي، للنيابة عنه في تدبير و تسيير الشأن العام.
فإذا كانت عقليات النُّخبة السياسية المنتدَبة غير مواطنة، وبالأخص، مهووسة بالوصول إلى السلطة من أجل قضاء حوائجها، فإنها لن تفكِّرَ إطلاقا في النهوض بوعي الشعب ومستواه الثقافي. وذلك لسبب بسيط : استمرار العقليات غير المواطنة في المكوث في السلطة مرتبط بجهل الشعب أو على الأقل بجهل جزء لا يُستهان به منه. وهذا يعني أنه لم تكن لهذه النُّخبة السياسية المغربية، في يوم من الأيام، إرادة سياسية قوية ونابعة من حب الوطن للقضاء على الأمية والجهل والتخلف.
فلا غرابة أن تبقى، إلى يومنا هذا، الأمية والجهل متفشيين لدى شريحة عريضة من أبناء وبنات الشعب. وما يزيد في الطين بلةً، هو أن نفس هذه الشريحة التي تُحسَب بالملايين، هي التي تتعرَّض يوميا للفقر والهشاشة، بسبب انحراف النُّخبة السياسية المغربية عن مواطنتِها وعن عدم انصهار هذه الأخيرة مع مواطنة الشعب. بل إن هذه الشريحة من المواطنين، التي صنعتها النُّخبة السياسية المغربية بتصرُّفاتها اللإنسانية واللأخلاقية، غالبا ما توجد وتَشتغِل خارج الدورة الاقتصادية. بمعنى أن رجالَ ونساءَ هذه الشريحة المُهمَّشة، لا قيمةَ لهم، لا معنوية ولا مادية في مسيرة البلاد التنموية! علما أن أفرادَ المجتمع، كلهم وبدون استثناء، يجب أن تعتبرَهم النُّخبة السياسية المغربية، إن كانت لها ذرةٌ من الوعي وحبِّ الوطن، قوَّةً فكريةً وعمليةً تساهم حاضرا وستُساهم مستقبلا في تنمية البلاد وتقدُّمها وازدهارها.
وقد بيَّنت لنا جائحة كورونا الوجودَ الكثيف لهذه الشريحة من المواطنين الذين هم في الحقيقة ضحايا السياسات العمومية التي كانت وراء هندستِها النُّخبة السياسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع والتي، بالنسبة لها، هذه الصناديق ليست علامة من علامات الانتقال الديمقراطي، ولكن، فقط وحصريا، وسيلة تمتطيها هذه النُّخبة السياسية للوصول إلى السلطة.
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هو : "بما أن البلدَين، المغرب وكوريا الجنوبية، كانا متقاربين من حيث التنمية الاقتصادية، خلال الستينيات، بل المغرب كان بعضَ الشيء متفوقا على كوريا الجنوبية، فهل هناك فرقٌ بين الإنسان الكوري الجنوبي والإنسان المغربي"؟
من الناحيتين البيولوجية والفزيولوجية، ليس هناك فرقٌ على الإطلاق. الإنسان المغربي والإنسان الكوري الجنوبي، كلاهما ينحدران من نفسٍ واحدة، وهي آدم. وكلاهما لهم نفس الأعضاء والأجهزة التي تشتغل بنفس الطريقة وتُفرِز نفس الهرمونات ونفس الأنزيمات وكل ما من شأنه أن يضمنَ استمرارَ الحياة.
فلماذا إذن كوريا الجنوبية أصبحت من ضمن أقوى البلدان اجتماعيا، اقتصاديا، علمياً وتكنولوجياً، بينما المغرب لا يزال يحارب الأميةَ analphabétisme والجهل ignorance والفقر pauvreté والتهميش marginalisation والهشاشة vulnérabilité والاقتصاد غير المُهيكل économie informelle ويتصارع مع جميع أنواع الفساد les différentes sortes de corruption …؟
فإذا كان الإنسان الكوري الجنوبي والإنسان المغربي متساوين من حيث البنية البيولوجية والفزيولوجية، فأين يوجد الاختلاف؟
بكل بساطة، يوجد الاختلاف في كون الإنسان الكوري الجنوبي يبدأ بناءُه منذ نعومة الأظافر، أي أن الطفلَ الكوري الجنوبي يُعتبر لَبِنَةً من لبِنات تنمية المجتمع والبلاد، وقيمة مضافة، من المُنتظر أن تساهِمَ بفعالية efficacité وإنتاجية productivité عالية في هذه التنمية مُستقبلاً.
وقبل أن أختم هذه المقالة، أريد أن أقول وأُعيد وأكرِّر أنه، من المستحيل أن تتقدَّمَ بلادٌ أو تزدهر بدون أن تكون لنُخبتِها السياسية إرادةٌ ورغبةٌ قويتان لتحقيق هذين التَّقدُّم والازدهار.
وعدمُ توفُّر الإرادة السياسية القوية والنابعة من حب الوطن هو الذي جعل منظومتَنا التَّربوية تنتقل من فشلٍ إلى آخر، رغم الإصلاحات المتتالية ورغم الميزانيات الضخمة التي تُخصَّص لها سنويا.
ما لم تُدركه النُّخبة السياسية ولا تريد أن تُدركَه هو أن إصلاحَ منظومتنا التَّربوية يمرُّ، أولا وقبل كل شيء، عبر هيئةِ تدريسٍٍ مُكوَّنة تكوينا رفيع المستوى ومُكرَّمة أجتماعيا وماديا. خارج هذا الإطار، ستبقى هذه المنظومة غولاً يلتهم الأموالَ بدون فائدة!
مما لا شكَّ فيه أن شعبا واعيا ومثقَّفاً هو بمثابة مشتلٍ يُثمِرُ التَّقدُّمَ والازدهار والرقيِّ والحضارة. وهذه سِمةٌ من سِمات شعوبِ جنوب شرق آسيا، ومن ضمنها ماليزيا، أندونيسيا، سنغافورة…
يكفي أن نُلقيَ نظرةً من حولنا لنلاحظَ أن تقدُّمَ البلدان وازدهارها مرتبطان ارتباطا وثيقا بجودة خدمات المنظومات التَّربوية. والتَّصنيفات العالمية تؤكِّد ذلك!