السبت 28 سبتمبر 2024
منبر أنفاس

عبد العزيز حنون: مبارك عيدكم !! تعيدو وتعاودو !!

عبد العزيز حنون: مبارك عيدكم  !! تعيدو وتعاودو !! الدكتور عبد العزيز حنون..طبيب اختصاصي في الصحة العمومية و تدبير الصحة و باحث في التواصل الصحي
صباح العيد ..ما قبل الذبيحة (1)
في صباح يوم العيد بالدوار توجهت أنا وسي عبد القادر ولد الحصايري نحو روضة "سيدي البداوي" من أجل جلب "الكشير"... حمل معه منجلا مكسورا للنصف يسمى "محشة" و قفة من الحجم الكبير مصنوعة من "الوظيفة"... كان ما يزال شيء من الطل ينبعث طريا من تنفس الصبح ويعطى برودة مؤقتة منعشة في فصل صيف مرتفع الحرارة. "الكشير" -بالكاف منقوطة- هو سعف الدوم، من خصائصه صلابة أليافه، و هو يصلح أحسن من النخيل في صنع  الحبال و البردعات والشواريات و "التلاليس"و "المديونيات" وغيرها من أدوات الاستعمال المنزلي والفلاحي بعد توليف و "توظيف" شراكه وخياطتها بما يناسب.
 
"الكشير" أو الدوم الخشن له جذع شائك  و أليافه تترك أثرها على اليد إذا نزعتها بيدك مباشرة بدون وسيلة... المنجل يساعد على حشها بلا مشاكل اللهم بعض اللسعات الحادة التي تصيبك بعد تشتت الانتباه وارتطام اليد مع الجدوع  أثناء قطعها بالمنجل أو أثناء ترتيبها في القفة...
 
عدنا محملين، بل الأصح، حمل سي عبد القادر ابن الجيران الخدوم القفة مملوءة عن آخرها ورجعنا... عند وصولنا قالت له  جدتي "مي طامو" رحمها الله ": حطها آوليدي حدا البير وآجي تفطر..". سعف الدوم في العيد الكبير له وظيفة أخرى، غير تلك "الوظيفة" التي سأحدتكم عنها كتابة و اصورها لكم في فيديو فيما بعد إن شاء الله، وهي استعمالها فراشا للخروف أثناء الدبح حتى لا يتسخ بالتراب لأن المراح لم يكن مبلطا بالاسمنت،  يتم بسطه بشكل متكاثف ومتداخل يشد بعضه بعضا حتى يشكل فراشا متينا و طبقة من الدوم تعزل الخروف عن التراب في مكان مناسب لا هو بالعيد جدا ولا بالقريب جدا من القبة.
 
 يتم ذبح أملح الخرفان من القطيع مباشرة... اختياره و تهييؤه يکون خلال شهور من الاعتناء الخاص، فيصبح مذللا يأكل كل ما لذ وطاب من أنواع الشعير والفول، بخلاف النعاج الأخرى التي تكتفي بشيء من التبن أو ما تلتقطه من "المسرح" او من "الكرمومة" من بقايا ”الدراس“... الكرمومة مصطلح دلالته الأصلية غير تلك المتداولة حاليا.
 
 أتذكر خروفا كان فقد أمه فتم "ترويمه" للبقرة... "رومو" مصطلح جدير أيضا بالتوضيح لكن ليس هنا... لغتنا الدارجة جميلة و غنية جدا ! ما علينا، رضع هذا اليتيم منذ يومه الأول مباشرة من البقرة... ازداد وزنه بسرعة فأصبح حسن الهيئة خفيف الحركة... ألفه وألف كل من في الدار. لم يکد يبلغ عامه الأول حتى أصبح كالثور...كانت له حرية لا تتاح لأي من قاطني الزريبة.. يتحرك بلا قيود يتبعنا حيث نحن و يلاعبنا ..
 
العيد الكبير  ..  فراق صديق   (2)
بعد العودة بالكشير أفطرنا بشيء من الحليب الساخن والمحلى مع زلافة من "بركوكش" قدمتها لنا الجدة الطيبة مع دعوات الرضى.. بعدها غادر سي عبد القادر في الحين لانه بعد نهاية المهمة علی التمام بدا مستعجلا، لأنه بشكل أكيد كانت تنتظره عدة أشغال أخرى في منزلهم وربما عند بعض الجيران ايضا... الشباب کانوا يتمتعون بصفات الفتوة والشهامة والنجدة عن طيب خاطر وبلا مقابل... دائماً يتم "تسبيق" خيمة الطالب بن حنون و "مي طامو" جدتي التي لا يرد لها طلب لأنها أم الجميع... كانت قابلة، فهي بدون مبالغة أول من استقبلت في هذه الدنيا، وربما أرضعت، جل شباب وشبان الدوار وقتئد.
 
 أبقى أتسكع هنا وهناك. أطل على الخروف وهو بين إخوانه في الزريبة. أذهب نحو الكشينة.. و ربما أقترب من البئر
کي أرى صورة وجهي منعكسة في الماء، فتتم المناداة علي بصرامة "دوز حيد من تما".. فرغم أن الكل منهمك فيما كلف به، كانت عين المراقبة اليقظة لجدتي لا تترك مجالا للأخطاء الخطيرة.. لا مهمة متعبة ذات بال تسند إلي سوى بعض الأعمال الثانوية لإلهائي حتى لا أكون مصدر تشويش، كأمري بجلب إناء مثلا.. ادخل وأخرج  عدة مرات أمام الخيمة، أراقب حركة أهل الدوار، راجلين أو على الحمير مبردعة أو "ملاطية". البغال كانت نادرة في دوارنا. حركة الدوار کانت قليلة و متقطعة تفصلها مدة زمنية كبيرة من الهدوء التام، ليست كما هي حركة السير الكثيفة في المدن. فقط علامة الحياة في الدوار، في كل صباح عيد، هي الدخان المنبعث  فوق "الکوشينات"، أو صياح ديك هنا أو هناك وسط أسراب الدجاج الذي يتجول في جنبات نبات الصبار "الضرك" رحمه الله بحثا عن القوت.
 
حوالي العاشرة والنصف صباحا يعود الوالد والأعمام من لست أدري... ربما من صلاة العيد في مكان ما غير الدوار، لأنه لم تكن تقام صلاة العيد فيه..لا أدري لماذا رغم وجود مسجد ووجود حفاظ بل  فقهاء من العيار الثقيل بأولاد بنيفو.. بحضور الرجال تتغير حركة من في الدار..الكل متأهب للاستماع وتنفيذ التعليمات ..السكاكين معدة.. الماء الكافي موجود .. الخبز بل على الاصح الكرون جاهز.. الجمر مستوي الاشتعال أحمر متوهج فاقع اللون .. جدتي والعمات الطيبات هيأن الأواني لاستقبال " الدوارة".. موقد "تشواط"الكرعين والراس يلتهب .
 
 "بسم الله آ سي عزوز"، يخاطب الوالد عمي رحمهما الله. يذهب عمي سي عزوز نحو الزريبة ويستقدم الحولي.  ذاك المليح "ابن البقرة" الذي ألفناه... يضعه فوق فراش "الكشير" على جنبه الأيسر مستقبلا القبلة.. عاطفة متعارضة تجتاحني  بين فرحة العيد وما يأتي معه من جو عائلي و حيوية ومؤانسة ونشاط، وبين فراق صديق .. ثم تسيل الاوداج دما.
صورة لي من ذلك الزمن الجميل ..  مرت الايام ولم نكن نعلم ما تخبئه لنا الأيام..رحم الله من مات.. وبارك في من بقي و اصلح من قدم بدوره الى هذه الدنيا من الأجيال المتعاقبة  .. وتلك الأيام نداولها بين الناس !!
 
العيد الكبير (3)
سبع بلبطاين : عيدُُ يومه اكل وشرب وليله فرجة 
 قلت ان عاطفة متعارضة كانت تجتاحني أثناء عملية الذبح ... بين فرحة العيد وما يأتي معه من جو عائلي و حيوية ومؤانسة ونشاط، وبين ذبح صديق لعبنا معه وبه حتى أصبحنا نود لو يتم استبداله بآخر... يتم الحديث إلينا أن كبشنا المليح سيسبقنا الی الجنة، و سيحملنا على ظهره هناك، وبأن ذبحه مزية و مرتبة عالية حازها، بل هو فدية مكان واحد منا نحن الأولاد...وهكذا تبقى الأسئلة تتناسل، والعاطفة تتأجج، حتى نرى السكين و هو قد اخترق الأوداج : "بسم الله ، الله أكبر، اللهم هذا منك وإليك" يردد الوالد بصوت عال، لكن عمي سي عزوز هو الذي يقوم بالذبح...آنذاك نسلم بالأمر الواقع شاهدين على نهاية حياة صديق قريب ومعاينين حقيقة الموت و حالة سكون أبدي بعد "تركال" عنيف يرمز إلى قوة التشبث بالحياة. 
 
بعد نفخ الأضحية، لتسهيل عملية فصل الجلد عن اللحم، يبدأ السلخ. تأتي الجدة وتحدد برنامجها المستقبلي مع "البطانة". تعبر بشكل واضح عن رغبتها "راه باغيا نديرها "غرابل" أو" هيدورة"، و خصوصا تكون أكثر صرامة في أمرهم بتفادي أن يقترفوا ولو نبشة صغيرة في جلد الأضحية إذا أرادت تجديد "أسطول" اللبن: "حاول على البطانة راه بغيناها شكوة" و تبقى ترمقم عن كتب...
 
يحمل الرأس والكرعين  إلى حيث "التشواط" في "الفوسي" جنب الحائط بعيدا عن مجرى الريح نحو البيوت. يتم تنظيفه جيدا وإزالة الصوف الملتصق به. من تاثير النار تبدو الاسنان .. كنا نعتقد انه يضحك معنا .. ومنه اخذ ذلك اللوم لمن يخلط الهزل بالجد " بقا تفرنس بحال الراس المشوط" .. يتم غسل الكرشة والأمعاء وخلطها بشيء من الملح حتى لا تتعفن .. يتم تهييء بولفاف بالقدر الكافي للجميع .. شيء من الكبد والرئة والقلب..الكل يلفف في الشحم  ومنه سمي بولفاف..
 
 القبة مهيأة . الزرابي البلدية السميكة، تلك الحمراء المزوقة، قديمها وجديدها، تبسط كلها . الصينية وأدوات إعداد الشاي موضوعة في صدر القبة . مقراش النحاس يئن فوق جمر مكتمل الاشتعال. المخدات موجودة بوفرة. الطابلات مزينة بكساء أبيض. يسبق الاطفال للجلوس و  يختارون أحسن الأماكن قرب مصادر التموين. يجلس الجميع بشكل دائري على الأرض متكئين أو "مربعين" . يحضر الوالد رحمه الله الشاي بالقواعد الدقيقة المعروفة. يتم تهييء جميع البراريد ليكفي كل من في الدار. يدخل بولفاف ويتم إسدال الستار على الحصة الصباحية حوالي الظهيرة في جو عائلي رائع تعطره رائحة النعناع الطبيعي الذي تشم رائحته من مسيرة كذا وكذا وترطبه أطايب الحديث و مليح الكلام والدعابة الذكية من قلوب بيضاء نقية. ..
 
بعد حصة شواء "الدوارة" ينتشر الرجال في الأرض... بعضهم يفضل الذهاب للفيلاج والبعض الآخر يزور الجيران والعائلة...النساء يتصدين لطهي التقلية وتمليح ما تبقى من الكرشة والأمعاء والشحم... يتم تهييء الكرداس... العدد الكبير من الكرداس دليل على جودة الاضحية وسمنها...
 
كنت أزور الجيران خصوصا القريبين منا... جارنا العسكري سي عبد الله الميخ رحمه الله... أولاد سي المعطي...أولاد السباعي...و دار الحصيري...أناس طيبون ندخل عندهم مباشرة كما لو أننا في منزلنا، دائما الترحاب والبشاشة بقلوب صافية من النفاق الاجتماعي.
 
 عند اصفرار الشمس نتناول وجبة الغذاء بالتقلية الدسمة التي يتناولها "المحترفون" ب"القياس" وإلا "لعبت فيك" و أفسدت عليك ما تبقى من العيد...الغذاء المتأخر إلى ما بعد العصر خاصية من خصائص العيد الكبير لأن الإفطار بالكبد يكون قريبا من فترة الزوال. 
 
بعد صلاة المغرب تبدأ الاستعدادات "للسبع بلبطاين"... كنت محظوظا لأنني كنت أحضر للكواليس... يتم اختيار البطاين المليحة لإلباسها لشاب من الشبان المفتولي العضلات، لأن العملية تتطلب محهودا بدنيا كبيرا... حمل أثقال حقيقية والمشي طيلة ليلة كاملة... بطانة توضع على الظهر، وبطانة على الصدر، وبطانة في الجانب الايمن، وبطانة في الجانب الايسر يتم ربطهم جميعا من الأعلى ومن الحزام حتى لا يتفلتوا،وبطانة يلبسها  في اليد اليمنى حتى الكتف و بطانة في اليد اليسرى... ثقل حقيقي، لكن مكانة المناسبة وأهميتها في نفوس أهل الدوار تجعل الشباب يتسابقون للقيام بهذا الدور.
 
آخر سبع بلبطاين حضرته في الدوار كان سنة 1978. تم اختيار سي عبد القادر ولد الحصيري، هو نفسه الذي رافقته صباحا لجلب الکشير كسبع البطاين... التنشيط النغمي كان لسي حسن ولد السباعي کعازف علی الوتار ومن معه من عازفي الدوار و متقني الايقاعات بالبندير والطعريجة... الدوار كان يتوفر على فرقة محلية مجانية رهن الإشارة في كل المناسبات. أعراس. ختانة. وبعض العراضات والقصارات الخاصة بين الشباب. کانت تحيي کل لمناسبات مجانا.
 
 تم إلباس ولد الحصيري في خيمة ولد السباعي, وأيضا تحضير الآلات النغمية من تسوية لخيوط الوتار وتسخين للبنادير والطعارج المسفيوية على الجمر حتى يحتد صوتها...كما تم تعيين من سيقوم بوظيفة الجابي للمساهمات والزيارة ... "زوروهم" تعني أعطوهم ما تيسر من الدراهم كل حسب الاستطاعة...و خصوصا يتم الاختيار بدقة من سيقوم بعملية التسيير ممن يتقنون الكلام الموزون واختيار الدعابات المناسبة لكل خيمة حتى لا يتم "تغيير الخواطر" بفلتات "باسلة" أو تصرفات غير لائقة...كل شيء كان يمر بأخلاق عالية .
 
 بعد تحديد المسار بدقة يتحرك الموكب عبر مختلف مسالك الدوار و يتم المرور بسهولة و اختراق ذلك "الضرك" الشائك و الكثيف في ليل بهيم...  يتجمهر الاطفال والشباب حول سبع البطاين . يصول ويجول. يضرب كل من صادفه بتلك االبطاين المتبثة على اليدين، يهدد ويطارد خصوصا الشباب الذين يتحدونه بالوقوف أمامه وتركه يضرب، يضحك الجميع حد الاستلقاء على الظهور، يتفادى إزعاج النساء والأطفال و كل الذين يمكن أن يضجروا من الأمر " الناس المقلقين" حتى لا تكون مشاكل .
 
 بمجرد الدخول للخيمة تتم المناداة على أصحاب الدار. آمالين الدار، آ مي طامو..آ للا زهيرو.. في وقت تکون فيه العائلة مجتمعة علی وجبة عشاء الکسکس بالکتف الايمن الذي يقرأ کبير الدار احوال الطقس المستقبلية و يتوسمون سنة فلاحية مقبلة فيها يغاث الناس ... تسمع الجواب من بعيد: زيدو زيدو دخلو مرحبا بيكم...كان الناس ينتظرون موکب السبع بوتين البطاين ويتبركون بقدومهم ودعواتهم... 
 
يتوسط الجميع المراح بشكل شبه دائري وتبدأ عملية العزف وتطل نساء الدار من ابواب الغرف المفتوحة علی المراح کي يشهدن الوجبة...كانتخطر فرقة الدوار لا تعزف سوی العيطات التاريخية المعروفة منها خربوشة وما شابهها... تبدأ العيطة من عصابتها الثقيلة الوازنة و الموزونة و تنتهي بسرعة الايقاع إيذانا بالإقفال...بعدها يخيم صمت شامل له معنى المرور نحو المقدس... الفاتحة...
 
تبدأ الدعوات العامة الشاملة لأهل الدار: الله يحفظهم ..الله يحجبهم .. الله يخليهم ديما الفوق الفوق..الله يصلح الكسيبة.. ويزين الصنعة.. ويبارك في التجارة..الله يشافي ويعافي ويطفي العوافي.. أيضا يتم تخصيص الدعاء لبعض أفراد الدار الذين يزيدون في العطاء من أجل دعاء يوافق الحال "لي عالم بيه غير الله"..فيتم الدعاء لذلك المريض الله يشافيه...وذلك العازب المقدم على الزواج الله يختار ليه...العاقر الله يعطيها الولاد.. 
 
على نفس المنوال يمرون على كل الخيام واحدة واحدة والسبع يرعد ويزبد ويهدد و يحاول اخافة الاطفال و اليافعين ومطاردتهم  بشکل استعراضي وهو يردد تلک الاصوات الخشنة الباعثة للقشعريرة في ليل بهيم و قد يضرب بعض الکبار بالبطانة يختار منهم من يتحملون الممازحة لزرع مزيد من الفرجة... وتنتهي تلك الجولة الليلية قبل طلوع الفجر بقليل، في نشاط وألفة وحيوية، تعلو فيها الفرحة وجوه الجميع، في عيد مقدس و عائلي يقتطع له المساكين ما يليق به من جيوبهم المتعبة بالفقر و يكرسون له زمنا معتبرا من أيامهم التي لا تعرف الراحة من أجل إيجاد كسرة خبز حارة.
 
العيد الكبير (4) 
يوم ثاني عيد ..( المزبلية)
 في السنوات الأخيرة يتم الحديث في وسائل الاعلام ويتم تقاسم عبر وسائل التواصل الاجتماعي  بعضا من إحياء  السبع بو البطاين أو بو الجلود في مناطق عروبية و أيضا عند "الشلوح"  لكن لم أعثر على عادة كانت عندنا تقام ابتداء من ضحى يوم ثاني عيد و هي : :المزبلية" ، بل حتى البريبرات وهو الدوار المحادي لسوق اثنين الغربية الذي يبعد عنا ب12 كلمترا الذين كانوا بدورهم يقومون باحتفالية مختلفة عنا تسمى "جاد جوماد" حيث يتنكرون بماسكات حيوانات يشترونها و يلبسون ثياب نسائية تقليدية "الدفينة والتحتية" كما كانوا يبرولون بعض المواويل المرتجلة ويضربون على الطعاريج بايقاعات غير منسجمة لانه لم يكن لديهم عازفون يثقنون الالات الطربية التقليدية. 
 
لكن دوار القوار كما قلت كان يقوم باحتفالية تبدأ بتلطيخ لزعيم الوفد و رئيسه الشرس بالتراب والماء .. و کانت دائماً البداية من دار الطالب بن حنون ومي طامو جداي للاب رحمهما الله. حيث في الصباح حوالي التاسعة و بعد أكل لحم الراس والكرعين في الفطور، أو ما يسمى "بوهيروس"- جاء هذا الاسم من اعتقاد رائج عند الناس وقتئد بأن كسر عظام الرأس يؤدي إلى نحس يصيب الأواني حيث يتسلط عليها  كثرة الكسر- .. قلتَ يجتمع الرجال عندنا  قرب البير و يجلبوا دلوين من الماء من أجل خلط عجين الطين ( التراب). "عجنة فاعلة تاركة". بعدها يتقدم رجل من أطيب خلق الله. خدوم، بشوش، قوي البنية طولا وعرضا. كان من قوته يمشي مزعزعا الارض تحت قدميه و لا يبالي، حافيا کان ام منتعلا “الکراک“. يمر فوق صخور "الساحل" الكلسية بسرعة  وسلاسة في الوقت الذي كانت تتعبنا وتمزق کل ما في ارجلنا نحن أصحاب السبرديلات... كان يناديه كل من في الدوار ب" عزيزي" نظرا لاخلاقه العالية ولخصلة کانت تميزه عن غيره من رجال الدوار وهي تقديم المساعدات في الاقات الحرجة وخصوصا الاعمال التي کانت تتطلب مجهودا بدنيا، کان يقوم بها بکل فرح و بدون تکلف في الاعراس و آلاتراح أيضا " لي كال العرس ساهل يسكي عا ماه" 
 
قلت تقدم عزيزي فتم طلاؤه بذلك "الغيس" من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. فعلا تغيرت ملامحه الخارجية وأصبح شكله مخيفا حقا. هناك كرنفالات وعادات الطلاء بجميع أنواع الطين في عدة اماكن عالميا. في المغرب هناك أشياء أخرى غير استعمال الغيس، مثلا هناك حمامات الرمال في الجنوب و استعمال ماء مولاي يعقوب، لكن في حدود علمي لا توجد عملية طلاء الجسم كاملا بالغيس في غير هذه العادة التي كانت تقام يوما واحدا في السنة، و أيضا باستثناء ذلك الاستعمال الجزئي للغاسول من طرف النساء في أماكن محدودوة من الجسم في مراسيم الحمام التقليدي. من لديه معلومة في موضوع استعمال الغيس في المغرب سأكون ممتنا و شاكرا له..
 
 بعد التلطيخ الكامل لعزيزي فوق الثياب، يأخذ كرتين متماسكتين من" الشراوط" و" يرقدهما" جيدا في ذلك الغيس حتى "تشبعان" بالتراب المبلل، ويحملهما في يديه. هما وسيلة المهاجمة أثناء الجولة. هناك من يضربه بها على الظهر حتى ترتسم تلك البقعة فوق الجلابة البيضاء لفلان وعلان ممن لا مشكل لديهم في تنشيط المناسبة ولو على حساب إعادة غسل و"تجبيد"الجلابة من جديد. بل تبقى تلك اللقطة تحكى بين الناس: "وا عرفتي عزيزي شير على سي فلان ما زكلوش ههههعع"، كما قد يكتفي فقط بوضعها على رأس مريض  أو امرأة أو طفل صغير بين يدي أبيه جلبا للبركة. يمر موكب النهار في نفس المسار و بنفس الطريقة بايقاعات العيطة التاريخية بتنشيط اولاد السباعي المتقنين لالة الوتار و معهم بعض شباب الدوار كما مر في الليلة المشهودة .. لكن فقط  يتم استبدال البطاين بالمزبلي "عزيزي". يسير الموكب و دائما تکون مهاجمة المزبلي لبعضهم، يليها دخول الخيمة والترحاب، تليها قصيدة عيطة بقواعدها، وفي الأخير ترفع الفاتحة والدعاء لأهل الدار، ويتم المرور الى الخيمة الموالية، وهكذا حتى آخر خيمة في الدوار.
 
بعد نهاية الجولة يتم  حساب حصتي مساهمات الليل و النهار،  و مباشرة في المساء يكون اجتماع اللجنة المنظمة لمناقشة مقترحات صرفها. تكون مشاريع بسيطة لكنها عميقة في دلالاتها. أحيانا يتم شراء فراش للجامع أو بناء و ترميم بعض مرافقه، أو القيام بتسهيل طريق وسط الدوار أو مساعدة مريض، كما يتم الاحتفاظ بشيء يسير منها لعقد وليمة جماعية بتنشيط محلي لكن مع مرور الأيام و الهجرة الجماعية للشباب النشيط نحو المدن أصبح يستقدم لها "رباعة ديال الشياخ من آسفي".