لن يكفي أن نقول هذا ونكرره مليون مرة، فقد ابتلتنا تكنولوجيا الإعلام والاتصال ووسائل التواصل برزية كُبرى شكّلتها قنوات، لا تُعدّ ولا تُحصى، لأنفار لا علاقة لهم من قريب ولا من بعيد بالإعلام وأدبياته وضوابطه وأخلاقياته... فما بالنا بتقنياته المهنية والاحترافية، بعدما تحول كل من هب ودبّ إلى مُخبر ومُحلل في السياسة والدبلوماسيا والاقتصاد والاجتماع والثقافة... بل حتى في الشؤون العسكرية والحربية... لتصبح ساحة هذا التواصل المُفترَى عليه مَلْئَى بمواد إخبارية وتحليلية بعيدة كل البعد عن الواقع... فكيف ذلك؟!
دعونا نستعرض ثلاثةَ نماذجَ ملموسةً ودالّةً على صدق دعوانا حتى لا نحيد عن الواقع:
1- قبل أيام، أو أسبوع أو أسابيع يسيرة، أو قبل شهر أو أشهر معدودات، إذ الظاهرةُ متكررةٌ على مدار الساعات والدقائق... اعتاد أن يخرج علينا ذلك النوع من قنوات التواصل الهجينة بصراخ يصم الآذان، وجميعُها يُعلن في كل مرة بأن شنقريحة يعلن الحرب على المغرب، ويجهز جيوشه لشن هجمات عسكرية خاطفة علينا، وهرطقات أخرى من هذا القبيل... دون ان يسأل أحدهم نفسه: "ترى ما السبب والسر في تَمَسُّك الدولة المغربية وأجهزتها الرسمية بصمت القبور في تعاملها مع هذه الانفعالات"؟!.
ذلك أن أحدهم لو كلف نفسه طرح هذا السؤال المنطقي، والبحث في أجوبته الممكنة والقريبة من واقع الأشياء، لاكتشف بأن الموضوع برمّته لا يستحق، وبأن شنقريحة اعتاد أن "يضرط" كلما تحرك يمينا أو يساراً فوق كرسيّه الدوّار، وبأننا غير مطالَبين بالصراخ والعويل كلما تنفّس ذلك العجوز من تحت الحفاظات السميكة التي لا يرتدي زيه العسكري المؤبّد إلا وقد ألصقها بين فخديه بكل عناية حتى لا يُصابَ أسفلُ سترتِه بالبلل بين الحين والآخر!!!
ولو أن هذا النوع من أصحاب المواقع التواصلية فكر قليلا لَاكتشف أن النظام الجزائري لن يستطيع أبدا أن يعلن علينا أيَّ حرب ولا أن يشن ضدنا أي هجوم خاطف، أو متمطِّطٍ في الزمان والمكان، لأنه يعلم مُسْبَقاً بأنه أمام مغرب أقوى نوعياً ألف مرة من مغرب الستينات وبدايات وأواسط السبعينات من القرن الماضي، الذي لقن لهم ذلك الدرس الذي لن ينسوه أبداً، والذي يُقال، والعُهْدَةُ على الراوي، أن مِن بين أبطاله، أو بالأحرى بطلاته، قطعةَ ريال مغربي (خمسة فرنكات سابقاً) مطبوعة كالوشم، بعد إحمائها على النار، في مؤخرة كل ضابط من الضباط الذين وقعوا أسرى لدى القوات الملكية أثناء معركتَيْ أمغالة الأولى والثانية، وأن شنقريحة بالذات، كان من بين أولئك الضباط، وأنه بالتالي مِن بين مَن حملوا معهم تلك الذكرى المؤلمة، بكل معاني الإيلام ودلالاته الجسدية والنفسية... ولعل ذلك بالذات، هو الذي يجعل شنقريحة يتنفس من مؤخرته حِقداً دفيناً تجاه المغرب كلما حرّكها يَمْنَةً أو يَسْرَةً فوق كرسيّه المتحرّك... والله أعلم!!!.
2- قبل فترة وجيزة أيضاً، وغداةَ السابع من أكتوبر الماضي تحديداً، طلعت علينا نفس القنوات، الهجينة والحالة هذه، وهي تزغرد وتولول فرحاً واستبشاراً بخبر شن بعض مقاتلي حماس هجمتهم "الطوفانية"، التي أطلقت عليها قيادات تلك الحركة اسم "طوفان الأقصى" وما هي بالطوفان مطلقاً، لأنها تمت بصورة هزلية لم تخطئْها عيون المتدبّرين فيما يجري، حيث ظهرت فيديوهات مصورة بعناية لهجوم نفذته جماعة محدودة العدد والعدة على مواقع فارغة من الجند والعسس الإسرائيليين، دون أي مقاومة إسرائيلية تستحق الذكر، من لدن أحد اقوى واعتى جيوش العالم الحديث وأفضلهم تجهيزاً، وأحسنهم تغطية بأجهزة مخابراتية هي أيضاً من بين أقوى المخابرات في عالَم اليوم، حتى أن شباب حماس المهاجمين استطاعوا، إذا نحن صدّقناهم افتراضاً، أن يتغلغلوا إلى مبنى مخابرات إسرائيل بالمنطقة، حيث تخبّئ الموساد وثائق في غاية السرية والخطورة... إذا صدّقنا فعلا هذا الذي سمعناه ساعتها والهجمة "الحماسية" (نسبة إلى الحركة) في بداياتها الأولى!!!.
المهم أن قنواتنا، المعنية في هذا النموذج الهجين، تمايلت سَكْرَى من فرط نشوة الفرح بالنصر العظيم، وأطلقت العنان لكل الشعارات التي ورثناها عن شرقنا البائس منذ حربَي 1967 الخاسرة، و1973 ذات النصر المفبرَك، ولم يستفق أحد من أصحاب هذه القنوات من ثمالة النصر إلى غاية يوم الله هذا، بالرغم من الدمار الذي أدت إليه تلك الهجمة الفاشلة والمصطنَعة بكل المعايير، لأنها وإن أثمرت اعتقال نحو 150 من الأسرى الإسرائيليين الذين لا خوف عليهم ماداموا سيُعاد تسريحهم بعد حين، وأدّت إلى مقتل نحو خمسمائة وجرح ما لا يزيد عن ألف نفر منهم، فإنها أدت مقابل ذلك إلى إبادة أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني من البسطاء العزّل، وجرح أكثر من مائة ألف، وإخراج أكثر من مليون نفر منهم من بيوتهم والدفع بهم إلى العراء تحت المزيد من سيول النيران من مختلف أنواع الأسلحة وأشدّها فتكا بالأرواح والأبدان... لتتحول غزة والقطاع إلى خراب مُهْوِل، وإلى جحيم يفر منه أعتى شياطن الجن والإنس... وما زال أصحاب القنوات ذاتها يتحدثون إلى غاية يوم الله هذا عن الانتصار الفلسطيني، المفترَى عليه والحالة هذه، ولا يزال هؤلاء المتطفلون على الإعلام والإخبار، وعلى مجالات التحليل السياسي والدبلوماسي والأعلامي والعسكري، يتمايلون طرباً كلما سمعوا فرقعةَ إحدى "كاتيوشات" حماس أو القَسّام أو نحوهما، مخلّفةً بضع خسائر في آليات الجيش الإسرائيلي، مقابل فتك هذا الجيش بالمزيد من أبناء غزة والقطاع، ولاشك أن دَوْرَ "رفح" وغيرها من مآوي بسطاء الشعب الفلسطيني آتٍ لا محالة، حتى بعد دخول بعض أجنحة إيران في هذه المسرحية الكئيبة والبعيدة كل البعد عن حقيقة ما يجري بالمنطقة برمّتها، بينما ينشغل العرب والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بمآرب أخرى ليس بينها ابداً هذا الهم الفلسطيني، الذي صار أبديا بامتياز... المهم، أن هذا النموذج من قنوات التواصل الاجتماعي ما زال يعيش على إيقاع هجوم السابع من أكتوبر 2023, وكأن عجلة الزمن والأحداث توقفت عن الدوران في ذلك اليوم بالذات، وكأن كل ما تلا ذلك من المآسي الفلسطينية ليس سوى أضغاث أحلام!!!.
3- بالأمس، وقبله أيضاً بأيام معدودة، انطلق مشهد جديد من المسرحية الهجينة ذاتها، فيما يوصَف الآن بالدخول المُدَوّي لإيران في "معركة الكرامة"، وكما هي عادة قنوات التواصل الأُمّية والملتبسة هذه، والتي نحن بصددها، ارتفعت صيحات التكبير والتهليل من جديد، وانطلقت مواويل الانتصار القادم والمحتوم، دون أي إدراك لحقيقة لا يعلمها إلا المتفقّهون العارفون بخبايا السياسة العالمية، والتي من بين "ألف بائها" أن إسرائيل لن ينتصر عليها احد مهما طال الزمن أو قَصُر، إلا أن يأتي أمر الله... وأمر الله هذا قد جعل الله له اسباباً يستحيل القفز عليها، ومن بين أبرزها أن يتغير واقع العرب والمسلمين إلى غير ما هو عليه أمرهم منذ قرون، وقد يستغرق هذا التغيير، إن كان مقدرا له أن يقع، قروناً أخرى قد تنبلج عن أجيال غير مسبوقة من القادرين على تحقيق ذلك الانتصار...
أما الآن، فما تقوم به كتائب حزب الله وحماس وبعض فيالق القوات الإيرانية ليس سوى تغيير للملابس والأكسيسوارات في المسرحية الكئيبة والبليدة ذاتها، وليس أكثر بأي حال من الأحوال!!!.
وكما رأينا ذلك وتأكدنا من تشابه مقدماته ونتائجه في هذه النماذج الثلاثة، فإن كل "الزيطة" التي تثيرها قنوات التواصل المنتمية إلى "كل من هب ودب"، ليست إلاّ تأكيداً على أن الوقت قد حان لكي تتحرك الدولة لتخليق هذا المجال الاتصالي والتواصلي، المُشاع، بعد ان صارت غِربانه اكثر عددا من مِهَنييه الحقيقيين، وصارت طيور البوم فيه أوفر عُدّةً من حِرَفييه المُلمّين بتقنياته وضوابطه وقواعده الأدبية والأخلاقية... وإلا فإننا سنستفيق ذات يوم على خواءٍ يستحيل بعد ذلك ملأُه بأي شيءٍ ذي قيمة!!!
أليست لدينا هيأة مكلفة بهذا الضرب من التأهيل والتخليق في فضائنا الإعلامي والاتصالي؟!
أليست لدينا وزارة معنية بهذه المهمة الكأداء؟!
أم هل كَتَبنا على أنفسنا أن نظل صرعى كوابيس الرداءة هذه إلى إشعار آخر؟!
مَن يجيب بكل أريحية وبلا ببغائية؟!!
أليست لدينا وزارة معنية بهذه المهمة الكأداء؟!
أم هل كَتَبنا على أنفسنا أن نظل صرعى كوابيس الرداءة هذه إلى إشعار آخر؟!
مَن يجيب بكل أريحية وبلا ببغائية؟!!
محمد عزيز الوكيلي/إطار تربوي