الإجابة عن هذا السؤال، تفرض طرحها انطلاقا من خلفية أمنية تستحضر الظروف الأمنية الداخلية للمغرب أواخر الستينيات وفي بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، مع الاعتماد على شهادة أحد مؤسسي"البوليساريو" وأحد أبرز رفاق الوالي خلال دراسته بمدينتي تارودانت والرباط.
الوالي المعروف فيما بعد ب"الوالي مصطفي السيد"، يحمل في الحقيقة اسم الوالي الرقيبي وله عدد كبير من أبناء عمومته وأقاربه، الذين استشهدوا سواء في صفوف جيش التحرير في الجنوب في مواجهة الاستعمار الفرنسي والاسباني، و كذا في صفوف القوات المسلحة الملكية دفاعا عن وحدة وسلامة الأراضي المغربية. و الوالي الرقيبي هو الاسم الرسمي الذي كان يحمله بالاستناد على أوراق الحالة المدنية لاسترته بمدينة طانطان ، وبطاقة التلميذ بتارودانت وبطاقة الطالب الجامعي بالرباط وعلى جواز سفره المغربي الذي كان يتنقل به بين الدول.
الكاتبة اللبنانية ليلي بديع ، اعتمدت في كتابها "البوليساريو قائد وثورة " المطبوع سنة 1978 ببيروت، على شهادة محمد لمين احمد، واسمه الحقيقي " محمود الليلي" ، الذي ينحدر من اسرة علم ودين من مدينة طانطان، ومن قبيلة مغربية لها دور كبير هي الأخرى في الدفاع عن حوزة الوطن وعن سيادة المغرب على صحراءه ، والذي حال انتماءه القبلي دون خلافة رفيقه بعد وفاته، على رأس تنظيم "البوليساريو" رغم أنه كان يعتبر أكثر قربا من بين رفاقه من الرئيس الجزائري الهواري بومدين، بحكم أن الجزائر كانت تراهن في مشروعها الذي يستهدف المغرب، على جزء من مكون قبلي واحد كان يقيم فيما سبق بتندوف ويحمل الجنسية الجزائرية، وذلك منذ الستينات. وهو أمر سبق وأن أبرزه السفير الاسباني "خوسيه لويس لوس اركوص" في الجزائر، في برقية سرية بعثها سنة 1967 إلى وزارة الخارجية الإسبانية تحت رقم786 14 بتاريخ 17.5.1967.
يقول " محمود الليلي"، في شهادته التي نشرتها الكتابة اللبنانية الموالية للطرح الانفصالي، ليلى بديع في كتابها "البوليساريو قائد وثورة "، والتي تؤكد من خلاله صداقتها بالوالي بنشر صور تجمعهما في نفس الكتاب، يقول في صفحة 133: "وفي عام ١٩٦٦ أيضا، وعندما كون المغرب جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (يمكن المقصود هنا هو جبهة تحرير الصحراء) كنت ما زلت ادرس معه (الولي) في مدينة تارودانت وكنا نتابع معا الأحداث السياسية التي تجرى داخل الصحراء، كما كنا نتناقش بماهية النتائج التي ستجنيها هذه الجبهة لأهل الصحراء، فكان دائما يؤكد على أهمية دخول هذه الجبهة لمعرفة ماذا يجرى بداخلها واهدافها وخططها الاستراتيجية طالما انها جبهة شرعية تعترف بها الحكومة المغربية، وكل ماهو شرعي لا يعرض المنتظم فيه إلى أي خطر".
مما يؤكد أن "جبهة البوليساريو"، هي في الأصل حركة مغربية كان مهدها مدينة الرباط و تم تحريف مسارها واهدافها بعد ذلك، وهو ما نستخلصه من بقاء مجموعة من أبرز رفاق الوالي في المغرب، واستماتتهم الكبيرة في الدفاع عن سيادة المغرب على صحراءه، كالسيد الشيخ بيد الله الوزير السابق ورئس مجلس المستشارين، والأمين العام السابق لحزب الاصالة والمعاصرة، وهو ما نستشفه أيضا من قول الوالي حسب شهادة رفيقه محمود الليلي "طالما أنها جبهة شرعية تعترف بها الحكومة المغربية، وكل ما هو شرعي لا يعرض المنتظم فيه إلى أي خطر"، تصريح الوالي هذا كان خلال متابعته لدراسته في مدرسة التعليم الأصيل بتارودانت، حيث ارسلته السلطة المحلية بطانطان لمتابعة دراسته من جديد، بعد انقطاعه عن الدراسة بسبب وضع أسرته واشتغاله وهو صغير السن كعامل من عمال "الإنعاش الوطني ".
إشارة أخرى يذكرها محمود الليلي، تؤكد علاقة الوالي بجبهة لتحرير الصحراء المغربية(حيث نشأت انذاك عدة حركات ومجموعات تسعى لتحرير الصحراء)، حين حديثه عن العلاقة المحتملة للوالي بالفقيد محمد بصيري، ابن مدينة الدار البيضاء، احد مفجري أحداث مناهضة الاحتلال الاسباني سنة 1970, حيث أكد أن ليس لديه أي معطيات عن تواصل أو لقاء محتمل بين رفيقه الوالي ومحمد بصيري، ولكن يتم ذكر رواية الأخ الأصغر للوالي المدعو "بابه" في ص 135 من الكتاب السالف الذكر، الذي أكد أن أحد عناصر "جبهة المغرب" ،هو من كان وراء تنظيم لقاء بين الوالي ومحمد بصيري: " أما شقيقه الصغير بابه فإنه يؤكد بأن الوالي وبصيري اجتماعا أثناء مرور بصيري بطانطان، قبل إجراء الانتخابات البرلمانية الاولى بالمغرب، كما أنه كان على اتصال ببصيري عن طريق شاب شاعر لم يتذكر اسمه كان ينتمي لجبهة المغرب في عام ١٩٦٦ ".
ولكن كيف نفسر سهولة حصوله على جواز سفر وهو طالب جامعي حديث العهد بالجامعة ؟، لم يتجاوز بعد السنة الأولى. أي مباشرة بعد انتقاله الى الرباط من تارودانت، رغم ظروف اسرته المادية. حيث يؤكد محمود الليلي أنه لم يستطع الالتحاق بالرباط في البداية صحبة الوالي، بسبب وضع اسرته المادي والمقيمة هي الأخرى بمدينة طانطان، فكيف استطاع الوالي الانتقال إلى الرباط رغم وضع اسرته المشابه لوضع اسرة رفيقه.
سؤال يطفو على السطح، بحكم الظروف الأمنية والسياسية التي كان يعيشها المغرب في الستينيات ومطلع السبعينات. فمن المعلوم أنه من المستحيل أن يحصل " طالب صحراوي ومناضل يساري " بالرباط، يناضل في صفوف النقابة الطلابية "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب "، على جواز سفر، بالسهولة التي حصل عليه الوالي أواخر سنة 1969 وبداية 1970 وفي بداية سنته الأولى الجامعية، والذي تمكن بواسطته في نفس السنة وبعد ايام قليلة من تسلمه، من زيارة أوروبا والمشرق العربي، والجميع يعلم ما يتطلب ذلك من مبالغ مالية مهمة، وهو لازال طالبا في سنته الأولى بدون موارد مالية سوى منحته الطلابية التي لا يتسلمها إلا على رأس كل ثلاثة أشهر، وينحدر من منطقة كان شبابها آنذاك يخاطر بحياته ليخترق الصحراء المغربية الواقعة تحت الاحتلال الاسباني، وليعبر الحدود مع موريتانيا ويشتري فيها أوراقا ثبوتية موريتانية، تمكنه من الحصول على جواز سفر موريتاني ليتمكن من الهجرة الى أوروبا، بحكم أن السلطات المغربية لا تمنح جوازات سفر في تلك الحقبة من تاريخ المغرب، فالكثير من المهاجرين الصحراويين المغاربة في الدول الأوروبية والذين ينحدرون من منطقة وادنون خاصة من كلميم وطانطان، لم يحصلوا على جواز مغربي إلا بعد سنوات عديدة وبمشقة كبيرة.
فهل حصل الوالي وهو شاب حديث السن على جواز سفر بسبب علاقته بسلطة أمنية مغربية، أو بعبارة أخرى هل كان الولي متعاونا مع جهاز أمني مغربي؟، الجواب نجده مرة أخرى في شهادة في ص134 من نفس الكتاب: "وفي أواخر عام ١٩٧١ وأوائل ١٩٧٢ زار المشرق العربي وبذات بيروت في حين كان على صلة بالصحراء كان يدخلها خلسة مرة كل سنتين تقريبا، ويؤكد أحد رفاقه في الخلية الاولى، أن الولي كان يراسل مشايخ القبائل، أمثال خطرى ولد سعيد الجماني وإبراهيم ولد حميم وزرق ولد الجماني كما كانت له لقاءات مع المجموعات الصحراوية المجندة في الجيش الاسباني، خاصة في الشرق وفي منطقة السمارة ومع العمال، عمال إصلاح الطرق في نفس المنطقة ".
وهنا لا ننسى أن الوالي، سبق وأن استقبله إدريس البصري في منزله بالرباط، رفقة بعض رفاقه منهم محمود الليلي نفسه، وهنا وجب التأكيد أيضا ، أن أجهزة الأمن في تلك الفترة من تاريخ المغرب، الذي عرف العديد من التموجات ومحاولات الانقلاب العسكرية والمظاهرات المتتالية في كبريات المدن، لا يمكن أن تمنح طالبا قادما من الصحراء في مقتبل العمر، وفي بداية مشواره الدراسي الجامعي، جواز سفر، إلا في حالة حصوله على ثقة وتزكية السلطات المغربية من مستوى ادريس البصري أو غيره من المسؤولين الآمنيين الكبار، للقيام بدور محدد يخدم مصلحة المغرب.
وما يؤكد ذلك أيضا، أنه لم يتعرض مطلقا لمضايقات من طرف السلطات المغربية بمناسبات عودته من الصحراء أو بعد عودته من أوروبا أو من بعد زيارته لدول المشرق العربي، خاصة من لبنان وهنا نستحضر وضعية لبنان السياسية آنذاك، وفي ذلك يقول محمود الليلي (محمد لمين احمد) في شهادته في ص 133 :" في عام 1970 حصل الولي على شهادة البكالوريا بامتياز وخلالها تابعنا معا الأحداث التي جرت في العيون والتي قادها الشهيد بصيري، إلا أنه في صيف هذا العام خرج إلى أوروبا وزار هولندا بالذات وعاد مع بداية الفصل الدراسي لمتابعة دراسته".
الوالي اطلق نفس الاسم الذي كانت تحمله "جبهة تحرير الصحراء" التي تأسست بالمغرب سنة 1966،على التنظيم الذي أعلنه سنة 1973 في موريتانيا، والذي بقي يحمل مصطلح " تحرير "، ولا يتضمن بتاتا كلمة استقلال، مما يبين أن الانحراف قد وقع بعد المظاهرة التي نظمها الوالي ورفاقه بمناسبة "امكار" طانطان ، المطالبة بتحرير الصحراء في اطار السيادة المغربية، ولا شك ان طريقة تعامل السلطة المحلية مع المتظاهرين ، وبسبب "اجتهاد" رجل سلطة غير مدروس على المستوى المحلي والمركزي، تم تقديم هدية على طبق من ذهب للمخابرات الليبية، وبسبب "اجتهاد" اعتمد التعنيف والاحتجاز، هرب الوالي وبعض رفاقه بعد اطلاق سراحهم من مدينة اكادير التي تم تحويلهم اليها، خاصة وأن الوالي سبق وأن أنهى إجراءات التسجيل للموسم الدراسي الجامعي المقبل قبل أن يرجع الى مدينة طانطان خلال الصيف، أي أنه كان ينوي متابعة دراسته للموسم الدراسي المقبل 73/ 72. فما وقع خلال "أمكار" طانطان وسوء قراءة السلطات المحلية والمركزية آنذاك لما حدث، كان سبب سقوطه- وهو الشاب المتحمس القومي- في شباك المخابرات الليبية على يد عميلها في موريتانيا المدعو سعيد القشاط (كان يعمل في نفس الوقت مع المخابرات الجزائرية) والذي قدمه بعدها للعقيد معمر القذافي، الذي اقنعه بخلق بؤرة ثورية بالصحراء من أجل تحرير كل "المغرب العربي "، قبل أن يصطف القذافي مع الجزائر منذ سنة 1976، حيث سبق وأن أعلن مساندته الكاملة قبل هذا التاريخ وبشكل رسمي للمسيرة الخضراء عند انطلاقها.
قامت المخابرات الجزائرية العسكرية بالسيطرة الكاملة على "البوليساريو" بعد مؤتمرها الثاني الذي نظمته فوق اراضيها، وحاولت إزاحة الوالي عن مشروعها الذي كانت تخطط له ما قبل سنة 1967، بحكم أنها لم تكن تثق فيه اطلاقا . بل وتدفع بعض رفاقه الى الانقلاب عليه بعد نهاية اشغال المؤتمر الثاني لجبهة "البوليساريو" بشهرين فقط وازاحته من منصب الأمين العام، ليعود بعدها الى منصبه بسبب احتجاجات بعض أقاربه وبني عمومته، وعدد من رفاقه القدماء من ابناء مدينة طانطان كالسيد احمد الخر وغيره، الذين ستعمد الجزائر بعد ذلك الى اعتقالهم والتخلص منهم بسجنهم لسنوات طويلة. قبل أن تدفع بالوالي في السنة الموالية ليكون في مقدمة الهجوم العسكري على موريتانيا ليلقى حتفه.
محمد الطيار/ باحث في الدراسات الأمنية والاستراتيجية