إن حلف الناتو حلف عسكري "دفاعي" موروث عن حقبة الحرب الباردة بين الغرب الأطلسي والاتحاد السوفييتي. كان من المفروض أن ينحل هذا الحلف مع سقوط جدار برلين وتفكك حلف وارسو بشرق أوروبا، وتحول روسيا إلى نمط إنتاج السوق واندماجها في منظومة التجارة الحرة. وهو ما كان قد شجع الدول الأوروبية على عقد شراكات معها، ودفع بعض الرؤساء الأوروبيين إلى التعبير صراحة عن ضرورة بدء إدماج روسيا في الفضاء الأوروبي ، وضرورة إنشاء قوة عسكرية أوروبية بهدف بعث الطموح الذي طالما عبر عنه الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول وجسده عمليا بانسحاب بلاده من الناتو سنة 1966.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية المنتشية بالفوز على الاتحاد السوفييتي، وبأفكار المنظرين الأمريكيين المحافظين أمثال صامويل هنتنغتون وآخرون، والداعية إلى استعمال القوة الصلبة للحفاظ على الهيمنة الأمريكية على العالم وما تقتضيه بالضرورة من خلق عدو خارجي للإبقاء على وحدة الأمة الأمريكية، وضمان دعمها اللازم للمجهود الحربي الذي تبذله أمريكا خدمة لسياساتها الخارجية الهيمنية . وهي استراتيجية بعيدة كل البعد عما كان يختمر من أفكار في ذهن الطبقة السياسية الأوروبية التي رأت في انهيار الاتحاد السوفييتي بداية مرحلة جديدة في علاقاتها بالاتحاد الروسي في المجالات الاقتصادية والأمنية. لذلك سارعت أمريكا إلى إشعال فتيل ثورات ملونة في دول شرق أوربا وضمها تدريجيا لحلف الناتو ، رغم الوعود التي أعطيت لغورباتشوف بعدم القيام بذلك ، بل وإقحام الناتو في حروب داخل أوروبا وخارجها منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي ، كما فعلت في يوغوسلافيا سابقا ، ولاحقا في ليبيا ، وأخيرا في الأزمة المفتعلة في أوكرانيا مع بداية العشرية الثانية التي كان قد سبقها إعلان الناتو نيته ضم هذه الأخيرة خلال مؤتمر بوخارست 2008 ، علما منها أن تواجد الناتو في أوكرانيا يعد خطا أحمر بالنسبة لروسيا، وأن هذه الأخيرة لن تدخر جهدا في الدفاع عن عمقها الاستراتيجي ومجالها الأمني ، وهو ما حصل بالفعل عندما قررت روسيا التدخل عسكريا في أوكرانيا بعد ان استنفذت كل الوسائل الدبلوماسية لحل الأزمة سلميا من خلال اتفاقيات مينسك الأولى والثانية التي اتضح لاحقا ، حسب تصريحات هولاند وميركل ، أنها كانت فقط لربح الوقت حتى تتمكن أمريكا والغرب من تدريب الجيش الأوكراني وتسليحه وبناء تحصيناته الدفاعية .
بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا ، ودفع الناتو إلى المواجهة الغير المباشرة مع روسيا على الاراضي الأوكرانية ، وسن حزم من العقوبات ضدها من طرف الاتحاد الأوروبي ، مع ما صاحب ذلك من تحشيد إعلامي موجه من طرف لوبيات المال والسلاح الأمريكية وأتباعها في أوروبا، والداعي إلى شيطنة روسيا وتقديمها للرأي العام الأوروبي كقوة تهديد لأمنه الجماعي، إضافة إلى تشييع ثقافة الروسوفوببا التي ذهبت إلى حد منع وحجب كل القنوات الإعلاميىة الروسية ، وكل ما يحيل على ثقافتها ، وسحب كتابات دوستويفسكي من المقررات الجامعية ... أمام كل هذه الخطط تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد حققت مجموعة من الأهداف الحساسة والمؤثرة والمتمثلة في :
- وقف التقارب الروسي الأوروبي الذي كان سيعزز الأمن الجماعي لأوروبا ويضيف قوة دفع مهمة للاقتصاديات الأوروبية التي كانت ستسترجع سيادتها التي استلبتها أمريكا منذ نهاية الحرب الكونية الثانية ، وهو أمر ترفضه أمريكا التي لا تزال تنظر إلى أوروبا كمجال حصري لنفوذها .
- خلق جدار فاصل جديد على شاكلة جدار برلين بين روسيا وأوروبا تبرر من خلاله ضرورة الحفاظ على حلف الناتو و تقويته و توسيعه ليشمل دولا جديدة كانت دوما على الحياد وذلك لمواجهة "العدو الجديد " الذي يهدد باكتساح الدول الأوروبية ، حسب السردية الأمريكية .
- استنزاف روسيا اقتصاديا وعسكريا في أفق تفكيكها من الداخل لتسهيل السيطرة عليها لاحقا ، وفي نفس الآن إضعاف الاقتصاد الأوروبي من خلال الزيادة في النفقات العسكرية للناتو ، وزيادة الدعم لأوكرانيا ، وشراء الأسلحة الأمريكية ، إضافة إلى ما تخلفه العقوبات المفروضة على روسيا من ارتدادات على اقتصادات أوروبا التي تأثرت قدرتها الإنتاجية والتنافسية بعد أن حرمت نفسها من مصادر الطاقة الروسية المباشرة للاسواق الاوربية الرخيصة الثمن ، وتعويضها بنظيرتها الأمريكية الباهظة التكلفة ، أو إعادة شرائها عبر الوسيط الهندي ، وهو ما شجع الكثير من الشركات الأوروبية لتحويل استثماراتها من اوربا الى امريكا بعد ان قدمت لهم هذه الأخيرة كل التسهيلات الضريبية مع الاستفادة من الطاقة الرخيصة فوق التراب الأمريكي.
بالتالي يمكن القول إن الاستراتيجية الأمريكية نجحت مرحليا في تحقيق أهدافها رغم أن أي نجاح يقاس بالنتائج النهائية.
إن طول أمد هذا الصراع ونجاحات روسيا العسكرية والاقتصادية نسفت كل التكهنات الغربية، حيث حققت نموا لدخلها العام PIB بما يقارب 3.6% سنة 2023 ، حسب صندوق النقد الدولي ، مقارنة بالنمو الذي لم يتجاوز 0.5% بالنسبة لدول الاتحاد ، وذلك بعد أن طورت اقتصادها و نسجت شراكات اقتصادية مع الكثير من دول العالم بما فيها الصين والهند. أو من خلال مجموعة البريكس التي تجاوز دخلها العام الإجمالي نظيره في مجموعة الدول السبع. إضافة إلى ما حققته من مكاسب عسكرية في الميدان، رغم الدعم السخي الذي تقدمه أمريكا و اوروبا لأوكرانيا التي فشلت في هجومها المضاد و فقدت المزيد من الأراضي .
أمام هذه التحولات التي تشهدها المعارك في أوكرانيا التي تميل لصالح روسيا ، باعتراف القادة العسكريين والسياسيين الغربيين ، وأمام فشل نظام العقوبات على روسيا وما خلفه في المقابل من آثار سلبية على نمو الاقتصاديات الأوروبية ، بعد أن فقدان قدرتها التنافسية وإفلاس العديد من شركاتها الانتاجية ، بدأت تطرح الكثير من الأسئلة لدى النخب الغربية التي بدأت تعبر بشكل علني عن رفضها للحرب وعن عدم اقتناعها بجدوى استمرار هذه الحرب المدمرة للشعب الأوكراني والروسي التي تؤكد مؤشراتها العامة أنها ستحسم لصالح روسيا ، والتساؤل حول الجدوى العقوبات التي أنهكت الاقتصاد الأوروبي ، بل والجدوى من حلف الناتو نفسه ، المشكل من ثلاثين دولة ، الذي فعل كل شيء لتوريط أوكرانيا ولم يقم بأي شيء من أجل حمايتها وتفادي هزيمتها من طرف دولة واحدة . إن الوضع الحالي يكشف بما لا يدع مجالا للشك أن حلف الناتو مجرد فزاعة وأداة يمكن أن ترتد على الأمن الأوروبي الذي يحتضن العشرات من الرؤوس النووية الأمريكية في حال وقوع حرب كونية، وتحوله الى أداة استنزاف للموارد المالية للدول الأعضاء، لأن الوقائع تثبت أن قوة الردع الاستراتيجي تمتلكها كل من الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين، وهم من يحددون شروط الحرب والسلام دون مغامرة الدخول في حرب كونية مدمرة للبشرية .
إن التداعيات المستقبلية للحرب الروسية الأوكرانية المحسومة لصالح روسيا ، كما عبر عن ذلك بكل يقينية فلاديمير بوتن في حواره المثير مع الصحفي الامريكي تاكر كارلسون ، سيكون لها دون شك أثر سلبي على مستقبل الحلف الأطلسي ، رغم الانتعاشة التي شهدها في بدايات هذه الحرب ، سواء بانضمام أعضاء جدد أو بإعادة تشحيم ميكانيزماته بعد أن كان قد أصابها الصدأ.
أن تطور الصراع الاستراتيجي الحالي السائر نحو عالم متعدد الأقطاب تتشابك فيه المصالح الاقتصادية والتجارية بين القوى العالمية والصاعدة، تجعل من هذه الأليات العسكرية ، سواء تلك الموروثة عن حقبة الحرب الباردة أو تلك المبتكرة حديثا في جنوب شرق ٱسيا ، لن يكون لها أي دور في النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب ، الذي بدأت بعض النخب الفكرية في أمريكا التي تنتمي للمدرسة الواقعية أمثال ميرشايمر وآخرون يطرحونه كبديل عن الحرب الكونية المدمرة للبشرية. وهو ما سيتطلب في اعتقادي مشروعا استراتيجيا جديدا لمفهوم الأمن الجماعي يستجيب لمصالح الدول الفاعلة فيه. وما تصريحات ترامب الأخيرة حول الناتو واستعداد بلاده للانسحاب منه وقدرته على وقف الحرب الروسية خلال أربعة وعشرون ساعة إلا مؤشرا دالا على اقتراب هذه المرحلة التي يمكن أن نشهد فيها قيام أحلاف جديدة بديلة عن الأحلاف السابقة.
ولا غرابة حينها إن حصل تقارب امريكي روسي وصيني في المدى المنظور القريب أو المتوسط ، يفضي الى حوار استراتيجي حول مستقبل النظام العالمي والأمن الجماعي ، خاصة وأن هذه الدول تجمعها بعض الخصائص المشتركة ، والمتمثلة في :
- تبني اقتصاد السوق ونمط الإنتاج الرأسمالي الموجه من الدولة في القطاعات الاستراتيجية.
- الطابع المحافظ لمرجعياتها الأخلاقية والروحية وتقديس هوياتها الوطنية patriotisme.
-الرغبة والإصرار لدى قادة هذه الدول في تبوء الزعامة على العالم.
كل هذا يؤشر على أن الصراع الدولي الحالي الذي وصل الى حافة الهاوية، بين قوى عالمية جديدة مصرة على إقرار نظام متعدد الأقطاب بكل الوسائل، والقطب الأمريكي وحلفائه المتشبث بأحادية هيمنته على العالم ، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه أمام تغيرات جذرية عميقة في طبيعة العلاقات الدولية تتيح إمكانية تطوير بعض المؤسسات القائمة ، وتشكيل أحلاف وتكتلات اقتصادية وعسكرية جديدة إن اقتضت المصالح المشتركة ذلك .
د-تدمري عبد الوهاب
طنجة في 14فبراير2023