الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبدالغني السلماني : حراك التعليم بين التوتر والسكون  

عبدالغني السلماني : حراك التعليم بين التوتر والسكون   عبدالغني السلماني

في بعض الأحيان، لايرغب الناس سماع الحقيقة لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم  "نيتشه"

 كلما اندلع  حراك اجتماعي احتجاجي  جماهيري في الأفق ، بقوة الفكرة والشروط الممهدة لاندلاعه،  تكون هناك رغبة  جامحة لاحتوائه ، كما تكون قوة جديدة تغذي طموحات وآمال شريحة كبرى تنتظر الإنعتاق لكونها تشعر بالألم والإضطهاد المتراكم .أمام هذا الوضع نجد أنفسنا أمام أسئلة معرفية حارقة مفصلية تُحاصرنا من أجل فهم اللحظة والسياق ، لذلك نعتبر أن  الحراك التعليمي الاحتجاجي الذي عرفه المشهد التعليمي المغربي  خلال الأشهر الماضية وما خلفه من نتائج عكسية  يشكل  أفقا للتأمل لفهم مآلات الحركات الإحتجاجية في المغرب المعاصر.

من  الأسئلة التي تطرح نفسها بشكل راهني و ملح على هامش هذه التأملات، هو  مكانة المثقف وحضوره في مواكبة هذا الحراك . هل كان صوت  المثقف  مواكبا  لهذا الحراك التعليمي الذي وصل صداه  في كل المواقع والمنصات؟ ربما صوت المثقف لم يغب  في تتبع مسارات هذا الحراك وتطعيمه بالأسئلة والمشاكسة من موقع المعرفة ؟ لماذا لا يشارك المثقف في وضع السياسات التعليمية ومكانتها في تحديث المجتمع؟  مع العلم أن الهاجس التعليمي والتعلُمي هو  الأفق  الممكن لبناء مجتمعي سليم  يستثمر في الإنسان- كغاية -  في البناء ونشدان الأمل ؟  هي أسئلة لن يكون هذا المقال جوابا لتفاصيلها  بل إنه بداية  لتعميقها . ربما ذلك مرده كوننا  لم نراكم بالشكل الكافي في  فتح حوار بين النخب، أم أننا لا نملك نخبا مثقفة  عضوية -بالتعبير الكراميشي- تشارك في قضايا المجتمع، الجواب بالطبع لا يتطلب قول نعم . قد يكون هناك  اعتقاد منهجي راسخ عند المشتغلين  في مجالات العلوم السياسية، والسوسيولوجيا السياسية، وهي حقول معرفية متقاطعة،  كون ظاهرة الإحتجاج  أو الحراك في الحقل التعليمي كإفراز قطاعي   ضد تردي أوضاع  التعليم وما يرتبط بها من  أشكال وممارسات ،  حيث لا تتحكم فيها النصوص القانونية والمراسيم ذات الصلة ، ولكن تحكمها أيضا وبقدر كبير ، الوقائع والسياقات التي تمارس  مؤسسات التدبير  مهامها وأدوارها .

مما يجعل دور  النخب  أساسي   في التفاعل   مع نبض الشارع، من أجل مواكبة التحولات ودراسة الأوضاع في سخونتها وحميميتها وسط الضجيج الذي يحدث داخل المجتمع، حتى تكون محاولات التفسير  متنورة قائدة لأفق التحول الذي يدرس القضايا الساخنة بمنهجية متفاعلة وليس الإختباء خلف الحياد الموضوعي وبرودة الظاهرة.

 

تأزيم الحراك في مفاصل الفعل

يمكن أن تكونَ الحركة صعبةً بسبب الاضطرابات التي تُقيِّدُ حركة الفعل  أو التي تُسبِّبُ ضعفًا أو صعوبةً في إقناع المنخرطين  للإستمرار في الإحتجاج،   لكن تقليل الحركة بشكلٍ مُتعمَّد ، يُعطي الإنطباع  بأن  الحركة في كثيرٍ من الأحيان لم تكن تعكس حجم الإلتفاف على المطالب وتفعيل البرنامج المسطر وتحصين المكاسب بل الهاجس كان هو رفع سقف المطالب باعتبار اللحظة مواتية  بامتياز.

لذلك قد يبدو أن أي حراك  لا يراد له أن ينجح في تحقيق مطالبه المادية والديموقراطية سواء من قبل الذات الفاعلية المعنية به ، أم من قبل الذات التي تراقبه وتعمل على فرملته وكسر شوكته. لكن لا بد أن نقف وقفة تقييم هذا الحراك، ليس من منظور تشريح تنسيقياته والنقابات الأكثر تمثيلية و  الفاعلة في لحظاته رغم وجود  القصور الذاتي في التنظيم  والإنخراط والإنضباط والتنظير الذي تتحمل فيه الذات  الصانعة للحراك الكثير من المسؤولية الأخلاقية، حينما ألقت  اللوم على الآخر الصانع  للتخوين  والإنهزام ، وهذا قد  يتطلب  مكاشفة  الذات ومصارحة  هواجسها من أجل الوقوف على  الأعطاب وطرح سؤال البناء لتجاوز مآزق الخروح مع تحصين المكتسبات المٌحصلة  وهذا لم يكن في الحسبان  سرعان ما انتشى الفاعلون الميدانيون بِشل حركية التدريس   عبر   ممارسة ميدانية تتوخى البناء والتدافع المنتج  وتعطيل أو سحب النظام الأساسي.

 كتبت عن الحراك في 15/12/2023  وخلصت في نهاية المقال إلى فكرة اعتبرَها أحد الأصدقاء جد هامة  كون "كل حركة ممانعة تعي دائما أن كل ما يتحقق في ساحة الفعل يبقى في التقدير السياسي المرحلي سوى بداية لصيرورة نضالية منتجة تؤمن بالتراكم والتحصين " إنه الرهان والتفكير الجماعي بصوت العقل يتطلب متابعة وتفكيك وتحليل لكل التناقضات وفهم لطبيعة كل فاعل قصد إنتاج رؤية تضع خارطة طريق وبالتالي بناء معادلة تواصلية لا تجعل منتصرا واحدا في الميدان، بل الانتصار هو جماعي وتمرين يجعل الفعل الديموقراطي هو النموذج القادر على التراكم وهذا يتجسد في كل تنظيم مواز باعتباره الوسيط الأساسي بين الحركات الاحتجاجية، فما يلزم الانخراط المكثف في كل الأشكال الديموقراطية وتفعيل الاليات التشاركية في المقاربة و الفهم والفعل   وفي الأخير قلت بلغة تعي القادم "  قد أدرك وربما أجزم أن نساء ورجال التعليم يمتلكون العقلانية الكافية التي تؤهلهم لفهم حساسية اللحظة المهمة في اتخاذ القرار الهام والمناسب، خِبرتُهم تمنحهم اليقظة حتى لا يكونوا فريسة سهلة لمناورات جهات معادية ترغب في تأزيم الأوضاع وتعمل من حيث لا تدري على هدم كل فعل منظم قادر على كسب المعارك والرهان" وهكذا كان الحدث والمآل.

 

تفاوت التقديرات

في خطوة مفاجأة ، أطلقت وزارة التربية الوطنية ، عبر مديرياتها الاقليمية حملة توقيفات عن العمل في حق العديد من  الأساتذة المضربين عن العمل في مختلف المؤسسات التعليمية التابعة لها ، وذلك بعدما توصل مدراء هذه المؤسسات بتوجيهات إدارية صارمة تصب في توجيههم للتبليغ عن المضربين وتحويل أجوبتهم على استفسارات الإدارة، الأمر الذي استنكرته النقابات الأكثر تمثيلية في القطاع والتنسيقيات التي  التي ارتبكت وعلقت البرنامج النضالي ورغم ذلك  يبقى الأفق مفتوحا والمعركة لم تستمر بنفس الوهج  ونقول  حينما لا تستطيع حماية المكتسبات فأنت غير قادر على قيادة المعارك المقبلة، بعدما تتبعت هذا الحراك كغيور على الحقل  أطرح ثلاث ملاحظات أساسية :

 

الملاحظة الأولى:

ستهدأ احتجاجات نساء ورجال التعليم بعد  فرض حل ما أو إيجاد وساطة لا يهم مصدرها أو الجهة الساعية إليها؛  لابد من التذكير لأن الخاصيات التقليدية للسيكولوجية للحركات المضادة غالبا يكون   الغضب مؤقت أو الاحتجاج ذي النفس القصير الذي ينتهي بخمود الرغبة في الإحتجاج  أو في التظاهر، إما بفعل قوة  السلطة التي تفشل مراميه أو بفعل الانجذاب النهائي إلى صوت "المصلحة الفردية" تحت تأثيرات متنوعة ، أهمها تأثير "المكتسبات " التي كانت من أهم الآليات التي اعتمدها المخزن في دمج الزوايا والزعامات الدينية والسياسية.  رغم التراكم الذي حققته الحركة الإحتجاجية  في المغرب  أهم ما يميزها هو  النسيان رغم  الرمزيات المعبرة  عن شرعية المطالب ووجاهتها فإنها غالبا ما تنتهي  بالنكبات والإنكسارات ، ويمكن سرد أحداث  تركت ألما  فظيعا وشهداء وضحايا.. . لكن خاصية النسيان  تمثل تميزا مغربيا  وهو نوع من الذكاء العام الذي يتحرك في كل الإتجاهات رغبة في  البقاء  والتعايش مع الأوضاع ، غير أن هذا لا يعني أن النسيان شامل للاوعي وقابع في دهاليزه، بل هو مطمور  وخفي  يتغدى بانتظام  ويبحث عن اللحظة والمناسبة.

 

الملاحظة  الثانية

سيهدأ حراك التعليم  وفق هذه السايكولوجية، ووفق خاصية النسيان، كما هدأت الاحتجاجات أخرى  حراك زكورة وطاط الحاج ، جرادة... وأقواها كان حراك الريف ) رغم الإختلاف في الخصوصيات ( ويمكن أن نرجع للماضي البعيد لأخد العبرة  من الاحتجاجات المرافقة لتشرذم الحركة الوطنية ما بعد الاستقلال، واحتجاجات أحداث 1965، واحتجاجات 1980و  1984،   مقاطعة امتحانات الجامعية 1989  واحتجاجات دجنبر  1990 من القرن الماضي  واحتجاجات حركة 20 فبراير في القرن الجديد ، وغيرها من الأحداث الكبرى والصغرى التي شهدها تاريخ المغرب. خمود بعد هيجان، وسكون بعد توتر اجتماعي، له معنى " كيف نخرج من المعارك منتصرين  "  أم أن الجهد يتبخر  يكون السكون سيد الموقف   أو بتعبير ماركس يبقى  لهذا  الخمود له معنى "التاريخ الموقوف"، أو التاريخ المجبر على التوقف في محطة مفروضة.

سيهدأ حراك التعليم ،  ربما لا  خوف على المستقبل من منظور القيمين على القطاع  ، إنها لحظة فقط من لحظات نعرة الجسد  القطاعي  الذي يحتج بين الفينة والأخرى بدون أن تتعطل  ساقيه ويقفز من شدة الألم إلى مهوى الخيارات الغائرة التي تتفنن في النزول إلى المكان المناسب.

 

الملاحظة  الثالثة:

من منظور الذات الفاعلة الملة بالوضع  تعتقد  أن الدولة اليوم، ستتخطى حراك التعليم وباقي  الإحتجاجات الأخرى ؛ لأن سيكولوجية المجتمع هي ذاتها سيكولوجية الأمس، ولكنها لن تستطيع أبدا أن تنجو من احتجاجات الغد، باعتبار أن السيكولوجية نفسها  ستصبح متجاوزة ، وفي لحظة إنتاج سيكولوجية  مصدومة  لشباب لم تعد تضبطه ثقافة المجتمع وثوابت التاريخ،  هذا الأخير لا يعير أي اهتمام لمعنى  التراكم الكمي والنوعي ؛ لأن الجرح القابع في النسيان يغديه جرح جديد، قد يكون سببا في أحداث نتيجة  الفوارق الطبقية  وكل أصناف الإقصاء الظاهرة والمدمرة.

 

ما العمل :

المطلوب، اليوم، أن  تعمل الدولة باستمرار و تعي أخطاءها، وتنتقد نفسها، وتجدد عقلها وآليات تدبيرها لشؤون البلاد والعباد؛ لأنها خلفية لكل شيء، وكل حديث عن التفعيل الأمثل لسياسات عمومية بدون شرط تجديد عقل الدولة هو وهم من الأوهام أو جري وراء التقاط قبس من السراب.

الدولة، اليوم، بحاجة إلى عقل جديد ورؤية متبصرة  وتواصل مختلف؛ فبدون القطيعة مع  أساليب الماضي يكون البحث  عن تأزيم قد يكون إجماع أن لا أحد يرغب فيه . الواقع يتطلب أنماط تفاعلية مع كل القطاعات والاستجابة لمطالب الفئات المتضررة كالمتصرفين وتسوية وضعية الدكاترة  العاملين في القطاع العمومي والبحث عن مخارج تدعم الاستقرار وتجعل من الحوار آلية لتكريس الحكامة في كل المجالات .

د. عبدالغني السلماني، كاتب وباحث