الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

بوشطارت: الأمازيغية في أغاني الرايس "محمد الدمسيري": نضال في زمن الخوف

بوشطارت: الأمازيغية في أغاني الرايس "محمد الدمسيري": نضال في زمن الخوف عبدالله بوشطارت
تُشكلُ ظَاهرة الروايس من بين الظواهر الفنية والثقافية التي تمتاز بفرادة وخصوصيات كثيرة، فبالرغم من شهرة فنون الروايس في الجنوب المغربي وسفوح الأطلس الكبير والصغير، انطلاقا من مدينة مراكش، في الفضاء الذي تنتشر فيه تاشلحيت وتاسوسيت من حوز مراكش إلى الصحراء وتخوم دْرَا، إلا أن هذا الفن الأمازيغي الجماعي الراقي والممتع يعاني من قلة الدراسات التاريخية والأدبية والأنثروبولوجية، ولازال يحتاج إلى المزيد من البحث والتحليل والتأويل لفك الكثير من الرموز والاشكالات التي لا تزال عالقة، يلفها الغموض، تنتظر مَنْ يزيل عنها حجاب الصمت عن طريق البحث والتقصي والتفسير والتأويل.
فقد حاول بعض الأجانب منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين التقرب من ظاهرة "الرْوَايْسْ"، بفعل وصول الضباط والاثنوغرافيين الفرنسيين إلى سفوح "أدرار ن درن" وسوس، الذين كانوا يهتمون بتدوين جميع تفاصيل الحياة اليومية للمغاربة في البوادي والمدن. ونخص بالذكر هنا الباحث "Alexis Chottin" الذي تمكن من اللقاء با"لرايسْ الحَاجْ بْلْعِيدْ" في مراكش، والطبيب "بول شانيير" Paul Chainière في كتابه "الأطلس الكبير المغربي" الصادر سنة 1912، وذكر فيه وصفا دقيقا لما شاهده داخل قصبات القياد/ القواد، منها قصبة الگلاوي في "تلوات" وقصبة القايد "الوريكي" بأوريكا، وتحدث في كتابه عن سهرات الروايس التي كان القياد ينظمونها داخل قصباتهم، والآلات الموسيقية المستعملة والزي وغيرها.
لذلك؛ فظاهرة الرْوَايسْ مرتبطة بشكل وثيق بنظيمة سياسية واجتماعية عرفتها منطقة سفوح "أدرار ن درن" ومراكش وحوز "امي نتانوت" إلى "إيحاحان"، وهي ظاهرة القياد والبشاوات الكبار، أو "أسياد الأطلس" كما سماهم "أوجين أوبان" في كتابه "مغر ب اليوم" الذي أصدره سنة 1904.
فهذا النظام السياسي المحلي الذي يتميز به الفضاء الأمازيغي المنتمي لمنطقة مراكش والأطلس وسوس، والذي له علاقة بالوجود المخزني في هذه المناطق، حيث بفضله تم الانتقال من نظام امغارن الذي يتم عن طريق الانتخاب الذي تنتجه الكونفدراليات الأمازيغية، وهو ما سماه "روبير مونتاني" بالديموقراطية الأمازيغية في ظل "جمهوريات" محلية، والانتقال إلى نظام القياد الذين يتم تعيينهم من طرف المخزن لتمثيله محليا وجهويا. هذا النظام "القايدي" لعب دورا كبيرا ومحوريا في ظهور الروايس وانتشارهم، وتطور هذا النمط الفني خلال القرنين الماضيين، بفعل سياقات كثيرة ومتداخلة منها الحماية الفرنسية وغيرها.
ووصل فن الروايس قمة أوجه في النصف الثاني من القرن العشرين وتقريبا بعد الحرب العالمية الأولى بسبب دخول تقنيات التسجيل إلى المغرب، ومع تطور هذه التقنيات أصبح الروايس هم أسياد الفرجة والمتعة الموسيقية في سوس والصحراء والواحات والمدن الأخرى التي هاجر إليها الأمازيغ، ووصل صيتهم إلى ما وراء البحار.
غير أن تاريخ ظهور الرْوَايْسْ والأنماط الفنية والفرجوية الجماعية في المناطق الأمازيغية، قديم جدا، سابق عن مرحلة ظهور القياد الكبار وعن الحماية الفرنسية، وإنما له جذور ثقافية عميقة مرتبطة بحياة المجتمع منذ الأزل، فالرقص والغناء والإنشاد في المجتمعات الأمازيغية لها وجود ممتد في التاريخ منذ غابر الأزمان. فالأمازيغ يمارسون جميع أنشطتهم اليومية المنزلية والزراعية والرعوية بالغناء والإنشاد، وحتى الآلات الموسيقية التي يستعملها "الروايس" مثل الكنبري والرباب ولوثار وغيرها فهي قديمة، نجدها عند التوارگ في الصحراء منذ فترات بعيدة، وإن تختلف في التسميات والأشكال إلا أن لها نفس النغمات والايقاعات الموسيقية، مثل "تينيدي" و"أمزاد". ف"الروايس" هم امتداد طبيعي وافراز موضوعي لظاهرة "إنضامن" و"إمديازن" الذين يعتبرون عماد وأسس فنون أحواش. وهو رقص جماعي نجده لدى جميع المجتمعات الأمازيغية.
ويعتبر "الرايس محمد ألبنسير المعروف بالدمسيري، حلقة ذهبية مشعة، ومدرسة فنية رائدة وناجحة بكل المقاييس، ضمن سلسلة طويلة ومسترسلة من المدارس، في الشعر والغناء واللحن وغيرها، منذ مدرسة "سيدي حمو الطالب" مرورا بمدرسة "الحاج بلعيد" ومدرسة "مولاي علي" بمراكش ومدرسة "ساسبو" بالدارالبيضاء، ومدرسة ألبنسير، الذي يمكن اعتباره سلطان الروايس وسيد الشعراء خلال القرن العشرين، وذلك لعدة اعتبارات ومعايير ومميزات اجتمعت في ألبنسير وتفرقت في غيره.
يظهر أن الشاعر والرايس محمد ألبنسير يتميز بحس ثقافي وفني فريد، يميزه عن باقي الفنانين الأمازيغ الذي عاصروه وحتى الذين جاءوا من بعده. وبالرغم من تشبثه بنمط موسيقي تقليدي أي ظاهرة الروايس، من خلال الألحان والأوزان والايقاعات والآلات الي اشتغل بها ويوظفها في أغانيه، إلا أن أشعاره خرجت عن الإطار المرسوم الذي كان الروايس ينظمون فيه أشعارهم، وتجاوز المألوف في الدلالات والمواضيع والقضايا التي يعالجها ويطرحها، وتميز أيضا بطريقة المعالجة والأداء، فاختار أن يكون جريئا في الطرح وقاسيا في النقد وسخيا في الغزل وعميقا في التصوف ودقيقا في الوصف، ومناضلا شجاعا عن القضايا الاجتماعية الحارقة.
غير أن أهم ما يميز ألبنسير هو تملكه للوعي الأمازيغي، الوعي الثقافي الذي جعله يتجرأ ويكسر عقدة الخوف التي هيمنت على الأمازيغ مبدعين وشعراء وكتاب وسياسيين، والحديث عن "الميز العنصري" الذي عانى منه الامازيغ واللغة والثقافة الامازيغيتين قبيل الاستقلال وبعده.
وسنحاول التركيز في هذه الورقة على موضوع "الاحتجاج الهوياتي" والتمرد الثقافي في الشعر الدمسيري، من خلال هذه المحاور:
1 - حياة ومسار ألبنسير؛
2- قوة تأثير ألبنسير في الجمهور، الشهرة والامتداد؛
3؛ الوعي بالذات الثقافية والهوية الأمازيغية؛/ الامازيغية مجال لأثبات الهوية
4- الاحتجاج الهوياتي والتمرد الثقافي؛
1: حياة ومسار ألنسير:
ولد ألنسير سنة 1937 بدوار تامسولت سنة 1937 بجماعة تيمزگديوين دائرة إمي نتانوت إقليم شيشاوة، ينتمي إلى قبيلة إلبنسيرن، والتي تستقر على سفوح الأطلس الكبير الشمالي، وكجميع أقرانه الأطفال ولج مسجد الدوار للتعلم وحفظ القرآن، لكنه لم يتمكن من إتمام مسيرته القرآنية، حيث استهواه الفن وبدأ منذ نعومة أظافره في تعلم ضرب الايقاعات من الناي والرباب الذي كان يصنعه من مواد بسيطة ومن متلاشيات التي تتخلص منها ساكنة الدوار. في البداية؛ واجه مشاكل كثيرة مع والده، لكن في نهاية المطاف ولج عالم الفن في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين حين وصل الرايس حماد امنتاك إلى دواره تامسولت في ترحاله وتجواله الفني من أطلس تارودانت إلى مراكش، ورافقه في تلك المسيرة الموسيقية التي كان أمنتاگ ينظمها كل سنة، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات، واتجه الشاب ألنسير برفقة مجموعة أمنتاگ من دواره في اتجاه الحوز ثم مراكش. وفي سنة 1961 دخل الرايس ألبنسير عالم الهجرة من بابه الواسع بسفره إلى ألمانيا ومن تم إلى سويسرا وعاد سنة 1964 وأسس مجموعته الفنية والموسيقية، وواصل مساره الفني الزاخر والحافل بالعطاء والابداع، إلى أن توفي يوم 11 نونبر سنة 1989 بسبب المرض بمصحة بمدينة الدارالبيضاء( توخينا الاختصار الشديد في مسار الفنان).
2 شهرة ألبنسير: الامتداد، القوة، التأثير وصل ألبنسير شهرة فائقة لم يستطع أي فنان الوصول إليها من قبله وبعده، أولا لأن الامازيغ لهم علاقة بالشعر والفنون وخاصة أحوايش، فهم ينتجون هذه الفنون ويرتبطون بها ارتباطا وجدانيا إلى درجة القداسة، بشكل أنطولوجي لا يمكن فهمه من دون إدراكه أولا ومن دون تذوقه والعيش وسط كنفه، وسط المجتمع الأمازيغي الذي تطغى عليه نظيمة الشفهي، لأن الأمازيغ يتأثرون بالشفهي أكثر من المكتوب. وألبنسير استطاع أن يدخل قلوب الأمازيغ لعدة أسباب أهمها:
- المهارة في العزف؛ تعلم أصول العزف لدى الرايس "اموراك"، وحسب العديد من الشهادات التي استقيناها من أصدقاء ألبنسير فإن ربابه الشخصي الذي يعزف عليه هو رباب الرايس أستاذه أموراك الذي ألحق به ألبنسير بعض التعديلات الطفيفة. لذلك حين نستمع لعزف ألبنسير فإننا ننصت لقسمات ونغمات في غاية المتعة، لأن طريقة عزفه راقية ومبهرة، عَزف لعدة فنانين وساهم في شهرتهم، على رأسهم بيزماون، والمهدي بنمبارك، وحماد أوتمراغت؛
- الشعر والنظم وقوة الكلمة، فهو شاعر جيد غزير النظم، بديع الأسلوب، حكيم البلاغة، وقوي في الرمزية؛ وغزارة الإنتاج؛
- الألحان، يختار ألحان ممتعة وراقية تمارس نوعا من سلطة المتعة على المستمع، على حسب ما يقول "رولان بارث"؛
- الجرأة والثقافة الواسعة بقضايا المجتمع وأسراره الخفية بحكم جولاته وأسفاره وعلاقاته المتشعبة مع مختلف فئات المجتمع، كما أنه يمتاز بالجرأة والتحدي؛
- الوعي السياسي والثقافي، تقرب من أوساط جمعوية وثقافية وسياسية، وقربه من جمعية البحث والتبادل الثقافي وحزب الاتحاد الاشتراكي زمن المعارضة؛
3 ألبنسير والوعي الثقافي: الفن كأداة اثبات الهوية
شخصية ألبنسير وتجربته الفنية والابداعية هي بحد ذاتها عنوان الهوية، إن لم نقل هو الهوية الأمازيغية بنفسه، لأن الغناء بالأمازيغية والإنتاج بها هو في آخر المطاف "إلتزام"، على اعتبار أن تسجيل الأغاني والأشعار والألحان الامازيغية بالطريقة والوثيرة التي استمر بها ألبنسير وغيره من المبدعين من جيله، في الإنتاج لما يربو عن ثلاثة عقود، يساهم بشكل لا جدال فيه وبشكل كبير في الحفاظ على الثقافة الأمازيغية واللغة الأمازيغيتين، فهو منتج للفن والثقافة ولكن في نفس الوقت يضمن استمرار الهوية التي تعيش في فضاء يهيمن عليه الصراع. والأمازيغية كما هو معروف تخسر الرهان دائما بسبب الاختلال البين في موازين القوى الذي ليس في صالحها، ولا نعتقد أنه سيكون عكس ذلك في الزمن القريب.
وبما أن مواضيع وقضايا المثارة في قصائد ألنسير كثيرة، فإننا سنركز هاهنا على الوعي بالقضية الأمازيغية، والتي يتحدث عنها بطرق كثيرة، باستعمال لغة الرموز التي يثقن البنسير توظيفها بشكل كثيف، وإما عن طريق الخطاب المباشر، وهذه هي ميزته الأساسية التي تميز بها عن الذين عاصروه والذين سبقوه والذين جاءوا من بعده...
القصائد كثيرة لكننا سنختار بعض الأمثلة:
قصيدة لعيز إ تشلحيت
ربي زايدات لعيز نك إتشلحيت
نتات أس ليغ أتيگ إنا غكا موسغ
الله أكبار أتادليت نوسيكم
إماقار واضو د تاگوت لبحر ماغن
سوق إندر سميدن كولشي تلفن
توسيمت أترگاكيت إشراين
أولا يان كيم ازنزان ايستن فاغن
هان أوشن أرئصاض إكيس تاگانت
أماس نْ تگما أغد إطاي تيغاطْن....
في هذه القصيدة التي بدأها البنسير بخطاب مباشر بالدعاء لله للزيادة في العزة لتاشلحيت، أي الامازيغية، وهنا يجب الانتباه أن المرحلة التي ينظم فيها "ألبنسير" كانت قاسية جدا، نتيجة الحصار المضروب على الأمازيغية كلغة وثقافة ولغة وغيرها، فحتى الجمعيات الأمازيغية التي تأسست آنذاك، كانت تسمي نفسها التبادل الثقافي والفنون الجديدة، ثم تستعمل الفولكلور، وتتحاشى الخطاب المباشر مخافة من الاعتقال والمتابعات، حتى البحث الذي سجله "عمر أمارير" في الجامعة منتصف السبيعنيات مع "عباس الجيراري" كان عنوانه في البداية هو "المقاومة في الشعر الشلحي"، ويظهر لنا أن استعمال كلمة "تاشلحيت" عوض تامزيغت كان هو السقف المسموح به آنذلك حتى داخل أوساط النخبة المثقفة والجمعوية والمناضلة.
فهنا يطالب البنسير بزيادة العزة والكرامة للأمازيغية بعدما شاهدها تعاني من الحگرة والاقصاء والتهميش... والقصيدة كلها يستعمل فيها كلمات وأمثلة رمزية دالة على الممارسات المشينة على الامازيغية والأمازيغ...
وفي قصدية أخرى نجد البنسير يخاطب الجميع بلغة مباشرة تنم عن وجود اقتناع كبير لدى الشاعر بالقضية الامازيغية التي يحمل وعيها الثقافي والسياسي، وهي قصيدة مشهورة بأگورن وهي طويلة أصدرها سنة 1981 وهي السنة التي تم اعتقال فيها المؤرخ "صدقي علي أزايكو" ومنع ا"لجامعة الصيفية بمدينة أگادير"، وهو سياق صعب جدا على الامازيغ في المغرب بعد اندلاع انتفاضة الربيع الامازيغي في الجزائر بمنطقة تيزي وزو عاصمة القبايل في يوم 20 أبريل 1980.
ويقول الشاعر ألبنسير في هذه القصيدة:
إيگاد الغدر تايوگا
ربي زايد إوگوك إيشلحين
أكولو سون إگيگيلن أمان
أدور أفن إمحسادن كرا نان
أسمقارد إموريگ نتشلحيت
أراسن سكران ضيد أور إلين
أيان إحسادن ماداك تيويت
هنا أيضا يستعمل الرايس ألبنسير نفس الحمولة التي تحملها الكلمات التي تنتمي إلى حقل العزة والكرامة/ الشرف التي يتمناها للأمازيغ، فهذه المرة يخاطب الأمازيغ عكس ما أشرنا إليه أعلاه؛ فهو يتمنى ويدعو الله أن يزيد العزة والمهابة للأمازيغية، يطلب السماء بعد أن عاين ما تتعرض له الأمازيغية من ظلم وجور فوق الأرض، لذلك اعتبر الأمازيغ "إگيگيلن" اليتامى الذين فقدوا ابائهم وأسلافهم، وهو ما يقصده "محمد خيرالدين" في الحديث عن نفسه بكونه سليل سلالة منسية قديمة، فما يريد أن يشير له ألبنسير في تشبيه الأمازيغ ب إگيگيلن أنهم لا يملكون من يدافع عنهم داخل دواليب الدولة، وهذا ما يسمى عند "الخطيب" و"رولان بارث" وآخرون ب"الوجود اليتيم" فنحن موجودون ولكننا أيتام مادام أن لغتنا منسية وثقافتنا مهمشة، واليُتم هنا سياسي بالدرجة الأولى، لأن ألبنسير يعرف جيدا امتدادات والمعاني العميقة لكلمة إگيگيلن، وهو ما يعبر عنه "محمد خيرالدين" في كثير من الايحاءات الرمزية ب"الوجود المنفي".
"الوجود اليتيم" يشرحه ألبنسير، بوجود إمحسادن، الذين يبحثون عن التهكم على الامازيغ، في "وجودهم المنفي" والخفي، فهم "شلوح" يتحدثون بلغة غير مفهومة، هامشية لا تصلح لشيء، هؤلاء "إمحسادن" ماذا يريدون وماذا يعملون؟
أسمقارد إموريگ نتشلحيت
أراسن سكارن الضيد أور إلين
إنهم يعادون وجود الفن الأمازيغي، والموسيقى الأمازيغية، والثقافة الأمازيغية، فهو اعتراف واضح لألبنسير بوجود إمحسادن وهم الخصوم الايديولوجيين الذين يعيشون مع ايمازيغن ولكن يحاربون أمارگ نتشلحيت....فمن يكون هؤلاء؟ ألبنسير يجيب بلغة ماكرة ويحول المعنى إلى حيث شاء صاعدا إلى السماء، مع العلم أن عنوان القصيدة هو عنوان ملغوم يحمل معاني ودلالات كثيرة، "إيكَا ييد الغْدر تَايوگا" ويمضي في الرد عن إمحسادن قائلا:
أيان إحسادن ماداك تيويت
ربي گيختن د أومازال ف لعين
نتان أرا ييد أفك أمان ...
وهنا يعود ألنسير ليكشف عن الوجود الخفي، لأگيگيل الذي يبحث عن الماء في الأبيات السابقة، "أكولو سون إگيگيلن أمان"، فإكيكيل هو نفسه ألبنسير الذي ينتمي إلى "إيشلحين" ويطالب الله الذي سيسقيه الماء، نتان أراييد إفك أمان. هنا ينتظر الشاعر ألبنسير بصيص أمل في المستقبل من أجل تحقيق العدل والمساواة للأمازيغية، مستعملة لغة رمزية عميقة متجذرة في الخطاب الصوفي الأمازيغي، وهي "الغيث"، ويرمز به هنا بضرورة الخلاص من الظلم والحگرة.
التحدي:
فألبنسير بعد فصح عن هويته بكونه هو المقصود بأگيكيل أي الامازيغ، فقد رفض أن يعلن انهزامه وأن يرفع التحدي معلنا عدم جبنه وخوفه من الدولة والقمع والسجون وغيرها...فزاد يرفع التحدي لإبراز الشخصية الأمازيغية القوية الصامدة، قائلا:
الله أرد ن تلعاب أشكو فرحغ
أراغ اتزاياد ربي غتيفاوت
أيليس ريغ أتن گاغ نلكمت
أهان أوريگي تاگوضي إبغ موتغ
أياك نفلد العز إيشلحين
أينازريغ نضمغ فلاسن
أوراك نكصوض كرا أداغ سول إينغ
أنوفاد نيت أنوض نكشم سرس
أتاكات د أوزال أكيسن إيلان
أولايني الدل إگوت فلاغ
أضوفاغ نيت الباضل س تيط إينو
مامنك رادسكرغ أتن لساغ
هنا يعود البنسير إلى التذكير مرة أخرى بعزة الشلوح إيمازيغن، لكنه أعلن التحدي وعدم الخوف من الموت، وحتى إن مات فسيكون ضميره مرتاحا، لأنه لم يترك الذل والمهانة للأمازيغ، ويصرح أنه وجد السياق السياسي صعب للغاية أنوض، وأن المعركة ليست في صالحه ولكنه دخلها بالتحدي والشجاعة والمغامرة، لأن الذل كثر وزادت وطأته على الأمازيغ، وهنا يدخل الرايس فيما يمكن تسميته ب"الاحتجاج الهوياتي" من أجل استعادة الحقوق الثقافية المهضومة، وضد التمييز العنصري والفني تجاه الأمازيغية.
4 الاحتجاج الهوياتي
انتقل البنسير إلى مستويات أخرى في وعيه الشقي بالقضية الامازيغية والهوية الثقافية، بإعلان احتجاجه الهوياتي وتمرده الفني عن طريق الشعر والغناء والموسيقى، ودخل في جدال سياسي صريح مع الفنانين المشارقة الذين بسطوا هيمنتهم على الإذاعة والتلفزة آنذاك، وهو يخاطب الرأي العام المغربي وتعلقه بالثقافة الشرقية العربية، والثقافة كما هو معلوم هي المرآة المعاكسة للسياسة، فتقديس المغاربة للفنون الشرقية هو ناتج عن تشبثهم بالايديولوجية القومية العربية. وبالتالي ذلك ما جعل ألبنسير يعقد مقارنات صريحة بين "الحاج بلعيد" و"عبدالحليم" وأم كلثوم والفنانين الأمازيغ. يتحدث بسخرية لا مثيل لها، وبشجاعة كبيرة في بوح احتجاجي طافح وكاسح للسياج الهوياتي الدوغمائي المفروض آنذاك في زمن ما بعد الاستقلال على المغاربة بسبب "القومية العربية" وتقديس "العروبة"، خطاب مباشر ولاذع يوجهه الفنان ألبنسير للدولة والمجتمع والقيمين على الشأن الثقافي والإعلامي. وذلك في قصيدة رزمغد إولي إينو سلوظا غوجديگ ألنسير ينتقل من المهادنة إلى المجابهة، بلغة صريحة مباشرة، ليس فيها رموز ولا معاني خفية، لأنه يريد أن يمارس تمرده عن طريق الانشاد والغناء ويريد أن يحتج على وضع لم يعد يطاق، وضعٌ يكرس "التمييز العنصري" والثقافي والفني ضد الأمازيغية، لأن الدولة لا تعترف بثقافة ولغة ألبنسير التي يسميها هو إموريگ، ويقول نادما:
غار أيسكا نصبر ليغ ياد نگا غيكاد
لقيما نتشلحيت إضر غيموريگ
لقيما ولي دار تلا غيموريگ
فَريد دْ كلتوم نتاد عبدالوهاب
ياك عبدالحميد مسكين حرا يفوض
اكولشي لخبار نس ايسگان الغرب
أكا يْگات الگنس أرت أدْران إوياض
أراديو ونتا كاسا سول اتخطاب
مرا ايس نومت نكني مارا نسيود
أزوند اموش إغ اتوافا غومدوز
الحاج بلعيد إيگا الشاف كولو نيموريگ
مرا أوكان إسول أفلان أر أزمزاد
أوالله أرد إيگومي غار ماسا ايساغ تيد
أك إفسي ربي غ أوسكرف أيموريگ
إما تگيت إگيگيل گاغ نكي وياض..
هذه القصيدة عبارة عن مرافعة طويلة للشاعر محمد ألبنسير، يدافع فيها بكل قوة وجرأة عن اللغة الأمازيغية، وما تعانيه من اقصاء وتمييز، فقد وصفها باليتيم المعتقل بالأصفاد، داعيا إلى التحرر والانعتاق. وهذا ما يجعل من تجربة الفنان ألنسير تختلف اختلافا بينا وواضحا مع التجارب الموسيقية للروايس الذين سبقوه وجايلوه، فقد انفرد بالوعي السياسي والثقافي الأمازيغي، وإن وصفه الباحث الحسين وعزي في أطروحته حول نشاة الحركة الثقافية الأمازيغية ب"الوعي التقليدي" مقارنة بما سماه بالوعي العصري الذي كان منحصرا داخل أوساط النخبة الجامعية والجمعوية في عقود ما بعد الاستقلال، إلا أن تحليل قصائد الشاعر ألبنسير، يؤكد لنا بوضوح أنه كان يعبر عن وعي ثقافي عميق وراسخ يجسد حقيقة ما كان يمتلكه الفنان من وعي سياسي وثقافي كبيرين بالرغم من عدم ولوجه للمدرسة في حياته، وهو الذي اكتفى بحفظ بعض سور القرآن في مسجد الدوار والذي غادره مبكرا، متجها نحو الفن والشعر والغناء وتعلم الآلة...
إن ما حققته القضية الأمازيغية من مكتسبات كثيرة، من اعتراف رسمي لها في الدستور، وادماجها في المدرسة والاعلام وإن بشكل محتشم، والاقرار الرسمي بالاحتفال بيوم رأس السنة الأمازيغية كيوم عطلة، جاء بتضحيات كثيرة، وبنضالات مريرة، وبمعارك سياسية وفكرية وفنية وإعلامية وابداعية كثيرة، متنوعة ومتعددة، فالاحتفال بأول رأس السنة الامازيغية كيوم عطلة، هو تقدير واعتراف لكل من ساهم في هذه المعركة الحقوقية الطويلة، إنها ثورة ثقافية سلمية مدنية عميقة، تقودها الأمازيغية بصبر وتأني وترقب....