رغم أن باريس تضم 5000 زنقة وشارعا، فإن أحب الشوارع عندي هو شارع "الشانزيليزيه"، ليس لأنه شارع مشحون بثقل تاريخي ملكي وامبراطوري، أو لوكونه شارعا حاضنا لأهم رموز السيادة الفرنسية وحاضنا لأشهر متاحف ومعالم باريس الثقافية والتجارية والسياحية، ولكن لأني أعتبره أحد أروع وأجمل الشوارع في العالم من حيث التخطيط والمسار والهيكلة والصيانة والاستقطاب على المستوى الكوني.
شارع الشانزيليزيه بباريس رغم أنه لا يمثل سوى 0،1 % من مساحة العاصمة الفرنسية ( ولا يشكل سوى 0،00002% من مساحة فرنسا)، إلا أنه الشارع الذي ينتج حوالي 3% من الناتج الداخلي الخام لفرنسا، بالنظر إلى أن "الشانزيليزيه" يستقطب مليون زائر شهريا.
فحسب دراسة أنجزها مكتب cushman wakefield ومكتب mytraffic في صيف 2023، فإن كل محل تجاري بشارع "الشانزيليزيه" عرف في الفترة بين ماي 2022 ويونيو 2023 مرور مليون مواطن أمامه، أي بارتفاع قدره 15% مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية. وبحكم أن باريس ستحتضن الألعاب الأولمبية عام 2024 فإن المختصين يتوقعون أن تتضاعف النسبة من الزائرين، مع ما يترتب عن ذلك من رواج وإنفاق وإنتاج للثروة.
هذه النسبة الزاهية لم يسبق أن سجلها أي شارع من الشوارع التجارية المشهورة عالميا، سواء في أمستردام ( شارع klverstraat), أو في مدريد (gran via), أو في برلين ( شارع kurfurstendamm)، او في لندن ( شارع osford)، او La Cinquième Avenue بنيويورك، أو les ramblas ببرشلونة، أو Via Torino بميلانو.
قصة شارع "الشانزليزيه" تستحق أن تروى، ففي بداية القرن 17 كان الشارع حقلا زراعيا، إلا أن الملكة ماري، زوجة الملك هنري الرابع، العاشقة للحدائق وللخضرة، طالبت بإحداث ممر مصفوف بالأشجار يقود إلى حدائق تويلري tuileries. وفي سنة 1674 سيقوم الملك لويس 16 بالمناداة على المهندس المنظري "لونوتر" andré le notre، وكلفه بإعداد تصميم لتهيئة مجالية جديدة لشارع الشانزيليزيه" وتوسيعه.
وفي مطلع القرن 18، سيحمل الشارع الاسم الحالي " حقول الإليزيه"، أي مامعناه في الميتولوجيا الإغريقية، "الجنة التي سيلتقي فيها الأبطال مع الآلهة".
ومنذ هذا التاريخ سيتخذ شارع "الشانزيليزيه" هويته، وهي الهوية التي ستترسخ في القرن 18 بإخراج أساسات البنايات الفرعونية بجنباته من جهة، وسيتسابق الأرستقراطيون الفرنسيون لامتلاك وحدات سكنية بضفافه من جهة ثانية، تم تحوله إلى قبلة للموضة في مطلع القرن 19 من جهة ثالثة، بشكل جعل الشارع يحظى بشهرة كونية، وهي الشهرة التي قادة مدينة باريس إلى جعل الشارع ملكية مدنية للبلدية عام 1828.
ومنذ ذاك الوقت أضحى الشانزيليزيه قبلة لاحتضان المعارض الكبرى: معرض الصناعة الفرنسية 1844، وإكسبو فرنسا 1855، تم الاستعراض العسكري التقليدي ليوم 14 يوليوز. وهو ما جعل الشارع يكون قطب جذب لكبريات الشركات العالمية التي تتهافت إلى يومنا هذا لامتلاك أمتار ليكون لها محلا أو فرعا بشارع الشانزيليزيه. فتحول الشارع من جنة يلتقي فيها الأبطال مع الآلهة، إلى جنة الثروة المالية وجنة التبضع والتسوق وجنة الإنفاق المالي بلاحدود في المراكر التجارية الفاخرة والمطاعم المتنوعة والمحلات المختلفة.