يبدو أن الطبقة السياسية في فرنسا سقطت في فخ اليمين المتطرف وايديولوجيته، وأصبح الجميع في الأغلبية واليمين الجمهوري يتسابق لتطبيق أفكاره وترضية ناخبيه، وهو ما مكن الحكومة من الحصول على الأغلبية لصالح قانون الهجرة بفضل أصوات اليمين المتطرف في الجمعية الوطنية الفرنسية.
القانون الذي اقره البرلمان متشدد ويشكل تراجعا في حقوق المهاجرين لم تشهده فرنسا منذ 40 سنة الأخيرة كما تقول المعارضة. هذا القانون اعتبرته زعيمة اليمين المتطرف "انتصارا أيديولوجيا لتيارها السياسي"، وقالت أخيرا" أصبحت الطبقة السياسية تتجاوب مع مطالبها". وقررت التصويت لصالح قانون الأغلبية حول الهجرة الذي يؤيد الامتياز الوطني الذي يطالب به هذا التيار المتطرف.
هذا التراجع جعل زعيم المعارضة اليسارية جون ليك ميلونشون يعتبر ان هذا القانون للهجرة يشوه وجه فرنسا"، بل ان البرلمانية اندري اوطاريا من نفس الحزب اعتبرت ان هذا "القانون عنصري"، اما ممثل الحزب الشيوعي اندري شاصان فاعتبر ان هذا القانون هو قانون "العار".
هذا المشروع الجديد يعد انتصارا لليمين المتطرف الفرنسي حيث ان نص القانون هو متشدد وكان بمثابة تجاوب مع مطالب اليمين الجمهوري ومع زعيمه أريك سيوتي الذي يقتسم عددا كبيرا من الأفكار مع اليمين المتطرف بفرنسا.
هذا القانون اثار ليس فقط أغضب المعارضة اليسارية بل جزء من الأغلبية الرئاسية حيث هدد 6 وزراء بالاستقالة في حالة التصويت على هذا القانون. لكن بعد التصويت عليه مساء يوم الثلاثاء 19 ديسمبر استقال وزير الصحة اورليان روسو.
اليمين المتطرف الفرنسي بزعامة مارين لوبين يشعر بالغبن جراء الاستحواذ على أفكاره من طرف جزء من الأغلبية الرئاسية وكذلك من طرف اليمين الجمهوري، كل مطالبه تم التجاوب معها في القانون الجديد للهجرة الذي أصبح الاكثر تشددا في تاريخ الجمهورية الخامسة. وتم تبني اغلب مطالب حزب مارين لوبين حول عدم اصدار قانون عام لتسوية وضعية المهاجرين بدون إقامة في المهن المطلوبة، وتسريع وثيرة الطرد، وسحب المساعدة الطبية لدولة عن المهاجرين بدون إقامة، وعدم السماح بالحصول على المساعدات للأجانب في وضعية قانونية الا بعد 5 سنوات منى الإقامة. وفرض ضمانة على الطلبة الاجانب بمبلغ سبعة الاف يورو وهي كلها قوانين تمس بحقوق الأجانب وتتعارض مع الدستور الفرنسي الذي يقر بالمساوات بين مختلف المقيمين بفرنسا بدون تمييز. وهي إجراءات حول الطلبة الأجانب تضر بالتعليم العالم والبحث العلمي كما قال رؤساء الجامعات في بيانهم.
طبعا اليمين المتطرف الذي يطمح للوصول الى الحكم في الانتخابات المقبلة، يشعر ان الطبقة السياسية الفرنسية الحاكمة وحتى في المعارضة تستولي على أفكاره ومشاريعه وتعمل على التصويت عليها حتى قبل وصوله الى سدة الحكم. بمعنى سيطبق جزء من برنامجه السياسي حتى قبل وصوله الى الحكم.
هذا التحول في المشهد السياسي الفرنسي تم بفضل الاستراتيجية التي نهجها وزير الداخلية جيرار درمنان مند 18 شهرا، واراد استعمال هذا القانون لتقسيم واستمالة اليمين واليمين المتطرف من خلال استعمال سياسة العصا والجزرة خاصة مع نواب الحزب الجمهوري وهي المقاربة التي نجحت مع الغرفة الثانية. لكن "انقلب السحر على الساحر" كما تقول الحكمة الشعبية، وأصبح هو من يخضع لهذا التيار السياسي من اجل تمرير قانون الهجرة الجديد. وهو ما تعكسه المفاوضات الشائكة التي تمت مند يوم الاثنين.
هذه المفاوضات التي تشرف عليها رئيسة الحكومة اليزابيت بورن وذلك بطلب من رئيس مجموعة الجمهوريين ايرك سيوتي الذي يسعى من خلال هذا السلوك الى اضعاف غريمه جيرار درمنان وحتى التخلص منه سياسيا، وفي هذا الإطار تم عرض المشروع على لجنة مشتركة بين الغرفتين من اجل انقاذ مشروع القانون حول الهجرة.. وهي اللجنة التي نجحت في تمرير هذا القانون الذي عرض على المجلسين وتم التصويت عليه.
هذه اللجنة قررت تشديد هذا القانون حول الهجرة، والخضوع الى مطالب اليمين المتشدد وهو الامر الذي 59 من النواب أعضاء الحزب الحاكم بعدم التصويت على القانون.
هذه الازمة السياسية التي تسبب فيها قانون الهجرة بدأت يوم 11 ديسمبر بعد تبني البرلمان اقتراح الرفض والذي نتج عنه رفض مناقشة هذا القانون داخل الجمعية العامة. وهو امر لا أحد كان يتوقعه، خاصة التحالف الغير الطبيعي سياسيا والذي تم بين اليسار بمختلف اطيافه وبين اليمين واليمين المتطرف من اجل اسقاط هذا المشروع.
يقول بونوا حامو أحد الوزراء السابقين في الحكومة الاشتراكية. "فكل ما يتعلق بالهجرة يثير العاطفة والردود العاطفية بالمجتمع الفرنسي وهي ظاهرة لم تعد تقتصر على فرنسا بل تشمل كل البلدان الاوربية". وهو ما يعكسه تصاعد اليمين المتطرف ووصوله الى الحكم بالعديد من البلدان الاوربية.
وتوصلت أيضا بلدان الاتحاد الأوربي بعد أربع سنوات من المفاوضات المعقدة من اعتماد ميثاق اوربي للهجرة، تميزت بنوده بالتشدد تجاه الهجرة.
وبعد صدور هذا القانون عبرت مجموعة من 15 منظمة غير حكومية تعنى بعمليات الإغاثة في البحر اعتبرت أن "هذا الاتفاق يشكل فشلا تاريخيا" و"سيتسبب في المزيد من الوفيات في البحر".
واشارت منظمة العفو الدولية إلى أن الاتفاق "سيزيد من معاناة" المنفيين، ووصفته منظمة أوكسفام بأنه "تفكيك خطير للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وقانون اللاجئين".
هذا القانون الذي تأجل سنتين تقريبا يحرم بعض المقاولات الفرنسية التي تطالب بتسوية وضعية العمال الذين ليست لهم إقامة من اجل الحد من الخصاص في عدد كبير من القطاعات سواء البناء والاشغال العمومية، قطاع السياحة والفندقة والمقاهي والمطاعم. وهو خصاص يصل الى عدة مئات من الالاف، في الوقت التي يوجد بفرنسا حوالي 700 ألف مهاجر بدون إقامة قانونية حسب الدوائر الرسمية. لكن الجدل السياسي واستعمال الهجرة في هذا الجدل لن يسهل عمل المقاولات وهو ما تترتب عنه مضاعفات على المستوى الاقتصادي وكذا على المستوى الاجتماعي حيث ان عددا كبيرا من المهاجرون يقطنون فرنسا لسنوات طويلة دون الحصول على الإقامة وعلى حقوقهم الاجتماعية. او ان فرنسا سوف تنهج سياسة جورجيا ميلوني، زعيمة اليمين المتطرف الإيطالي ورئيسة الوزراء، التي تردد خطابا معاديا للهجرة وتسوي وضعية المهاجرين بدون إقامة) تمت تسوية 123 ألف حالة سنة 2023) لحاجة اقتصاد بلادها لهم. فهل يأخذ الفرنسيون بسياسة الواقعية