الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

حبيبي: قصة المرأة "المحجّبة" التي حفظت سر زوجها حتى يوم وفاته..

حبيبي: قصة المرأة "المحجّبة" التي حفظت سر زوجها  حتى يوم وفاته.. عبد الإلاه حبيبي
بينما كان الجو يميل إلى الكآبة ذات صباح من قرب نهاية فصل الشتاء بقرية عريقة الأصول في الفصول وتعاقبها المنتظم، كنا ثلة من الأصدقاء لم نتجاوز بعد السن العاشرة  نلهو بالقرب من بيتنا في ساحة زقاقنا الذي نسجنا فيها كل طقوس طفولتنا الأولى... لم يوقظنا من غفوة أو سكرة اللعب غير تلك الصيحة القادمة من بيت غير بعيد، صوت امرأة تعلن عن أمر جلل..صرخة مزقت الأجواء وانفطرت لها قلوبنا...
هبت النساء نحو مصدر الصوت، كن يعرفن بحدسهن الطبيعي أن إطلاق مثل هذه الصيحات هو نذير شؤم، إعلان عن مصاب جلل ، عن رزء، إنه إخبار بالصعقة عن وفاة عزيز أو قريب..
بدورنا لم نتأخر عن اللحاق بأمهاتنا، حيث لم تمر سوى دقائق حتى حضر الرجال ومنهم والدي رحمه الله.. كانت المرأة صاحبة الصرخة المدوية قليلة الظهور، نادرة السفور، شبه "محجّبة" كما يقال وقتها في بيتها، لم ترزق ذرية ، كانت تعيش مع رفيقها وحيدان في بيتهما المتواضع... هذا الصباح زوجها خطفه الموت مع أول إشراقة النهار من نهاية ستينيات القرن الماضي .. كانت لحظة فارقة تمزّقت فيها أوصال عيشة دامت سنوات بين زوجين عاشا في هدوء وتواري عن الأنظار .. 
في عمق البيت كان النسوة يستقين الأخبار من جارتهن المحجّبة، في غرفة صغيرة كان يرقد زوجها المتوفى، العسكري المتقاعد من الجيش الفرنسي، صاحب العكاز الصلب، الرجل المحترم بين الرجال، المهاب الجانب، كان يحرص دوما على تشذيب لحيته على طريقة أمازيغ الأطلس، مع حلق الرأس كليا وتعميمه ب"رزة" أطلسية رقيقة أما جسده فكان يستره  بجلباب خفيف وأحيانا يضع فوقه سلهام أسود.. 
لم يتجرأ الرجال على اقتحام بيت لم يسبق لهم أن دخلوه، لأن المتوفى كان متحفظا أو محافظا، وكان الكل يحترم طقوسه واختياراته، لكنه كان مرحا في رحاب لعبة الورق رفقة أصدقائه العسكريين المتقاعدين..
حينما خرجت بعض النسوة من بيت السيدة "المحجّبة" ذاع خبر بين الرجال وسكان الزقاق أن الأمر يتعلق بطلب 'فتوى" من "فقيه'" القرية " موضوعها أن هذه الأرملة  الخارجة للتو من فاجعة الفقدان والترمل تريد أن تتكفل بتغسيل زوجها وتكفينه لأنها وعدته قيد حياته بأن تقوم بنفسها بهذه الإجراءات قبل الدفن...
حضر فقيه القرية إلى موقع الحدث، سمحت له السيدة المحجّبة بالدخول، دار بينهما حديثا غير طويل، وسرعان ما خرج ليخبر الجيران بفحوى حديثه مع الأرملة وأن سبب رغبتها  الملحة للقيام بكل العمليات قبل الدفن أنها تريد أن لا يرى الناس "عيبا خلقيا" في جسد زوجها، وهو شيء يخصهما وقد وعدته إن أدركه الموت قبلها أن تحرص على أن لا يرى الغرباء جسده وعيبه.. لم يتردد فقيه القرية عن السماح لها بالقيام بهذه العمليات بعدما لقنها بالتدقيق كل التفاصيل وما يصاحبها من أذكار وقراءة سور  من القرآن خلال التغسيل والتكفين وهكذا كان.. 
حينما انتهت الزوجة من عملها خرجت لتخبر الفقيه والرجال بالدخول لسحب رفيق حياتها نحو مثواه الأخير.. وقد كان لها وله ما أرادا..  كان حدثا غير مألوف في قريتنا، وقد أثر في كل الناس بمن فيهم الأطفال والنساء وتحول المأتم إلى إعجاب بهذه السيدة الشجاعة والصادقة الحافظة لسرّ بيتها وعرض زوجها .. تغمد الله كل الجيران الراحلين برحمته الواسعة وأنعم عليهم بالرحمة والمغفرة ...آمين