توطئة:
لا أحد ينكر الأدوار الطلائعية التي تتصدرها ومازالت المدرسة العمومية المغربية فهي المسؤولة عن تأهيل المواطن وجعله حلقة فاعلة ومتفاعلة في تطوير المجتمع من خلال تلقينه مبادئ المسؤولية والمبادرة البناءة في أفق الرفع من نجاعة الرأسمال البشري للدولة الأساس المعول عليه لتحقيق تنمية مستدامة ومحققة.
فالمدرسة هي المحرك الرئيسي لقاطرة المجتمع والمحفز الأول لقدراته الإبداعية، كيف لا وهي تحمل على عاتقها هاجس تحقيق رسالة نبيلة، رسالة نقل المعرفة وترسيخ القيم من خلال نظمها التعليمية وخططها التربوية القائمة على ومبادئ المساواة والعدل والإنصاف.
إلا أن كل هذه الرهانات والتطلعات لن تجد لها صدى يذكر إلا من بتفاني وتضحية نساء ورجال التعليم عماد المنظومة التربوية الوطنية بامتياز، فهم الفاعلون المعول عليهم لترجمة مقتضياتها إلى أرض الواقع والمحك الأمين لاختبار مراميها وإنجاح مخرجاتها.
فالكل يعي عن اقتناع صادق الدور الخطير الذي يضطلع به أساتذة التعليم بكل أطواره، فصلاحهم من صلاح المجتمع وتراجعهم له من الآثارما لا يحمد عقباه، إلا أن إهدار الزمن المدرسي قد يصيب في مقتل المجتمع بل ويؤدي إلى تراجع الدولة و اندحارها .
فذاك الأستاذ أو تلك الأستاذة لا يمكن استثناؤهما من المجتمع فهما بشر لهم حقوق وعليهم واجبات، غير أن الأمانة الملقاة على عاتقهم تجعلهم في وضع لا يحسدون عليه، فما السبيل للتوفيق بين الحق في الإضراب والحق في التنمية المستدامة؟ وما هو المتاح لضمان الحق في التعليم و الاحتجاج بالإضراب؟
في نظرنا؛ فهذه المعادلة الحقوقية المعقدة المتقاطعة في نتائجها لن تجد لها مخرجا إلا بقراءة متأنية للنص المرجعي (الدستور) في أفق التوصل إلى مقاربة حقوقية استشرافية.
إذا كيف قارب الدستور المغربي هذه الحقوق؟ وهل من حل وسط يمكن أن نتصوره لهذا الاستشكال الحقوقي الذي نعايش أطواره في مستهل هذه السنة الدراسية؟
أولا: المرجعية الدستورية للحق في الإضراب والتعليم و التنمية
إن جل النظم القانونية تقوم على هيكلة هرمية من القواعد والمبادئ يتربع الدستور على قمتها، وتشكل الحقوق والحريات أحد أهم مضامينه، بل هذه الأخيرة تعتبر صلب النظام الدستوري للدولة الحديثة.
الأمر الذي يمنح هذا النظام (الدستور) دورا أساسيا في تأطير كل توجهات الدولة، فهو بمثابة المعيار المعتمد لقياس عمل السلطات العامة أو امتناعها عن العمل، في إطار مبدأ مفاده: "أن العمل وفق الدستور يعني العمل على نحو منصف وعادل بما يتفق مع حقوق الإنسان والحريات الأساسية."[1] ما الذي يجعل مساءلة الموظفين العموميين على أي سلوك لا يتسق مع مبادئ الدستور مسألة مشروعة بل ومطلوبة.
ودستور المملكة المغربية الصادر بموجب ظهير 29 يوليو 2011 لم يشكل استثناء عما تقدم ذكره، فقد جاء متضمنا وضامنا في صلب نصه للحريات والحقوق الأساسية ومن بين هذه الحقوق نجد الحق في الإضراب والحق في التعليم والحق في التنمية المستدامة.
نعم فالمشرع الدستوري المغربي كرس هذه الحقوق بشكل صريح وذلك بالتنصيص على مضامينها في كل من الفصول 29 و31 و32؛ معلنا في تصديره لهذا القانون عن الهدف الأسمى من ذلك هو: "إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التوازن بين حقوق وواجبات المواطنة".
من هذا المنطلق يتبين لنا أن الإطار الناظم لممارسة الحقوق والحريات في منظور الدستور المغربي هو احترام التوازن بين الحقوق والواجبات المواطنة، و هنا يتبادر نطرح سؤال التالي:
- هل فعلا احتجاج رجال التعليم عن طريق الإضراب الذي تعرفه الساحة التعليمية في الآونة الأخيرة يحظى بالمشروعية من حيث أنه حق مضمون دستوريا، أم أنه تصرف مخالف لدستور المملكة من حيث أنه لم يحترم ضابط التوازن المطلوب تحقيقه بين الحقوق والواجبات المواطنة؟
هذا إذا علمنا أن إضراب رجال ونساء التعليم نتج عنه حرمان التلاميذ والأطفال من حق التعلم وهو أيضا حق مضمون ومكرس في إطار مقتضيات دستورية صريحة، فالمادة 31 تنص على وجوبية الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة وهذا يستنتج منه أن التعليم هو حق تعمل الدولة بكل تمثلاتها على ضمانه، بل أكثر من ذلك فالفقرة الرابعة من الفصل 32 من الدستور تضع التعليم في مصاف الحقوق الأساسية للطفل وأنه واجب على الأسرة والدولة.
زد على ذلك فكل هذه الحقوق سواء تعلق الأمر بحق الإضراب كحق مكفول دستوريا والحق في التعليم كحق أساسي بمقتضى الدستور يجب ممارستهما وفق مبدأ: احترام الدستور والخضوع لمقتضياته في طار ممارسة مسئولة ومواطنة؛ وفق مبدأ تلازم الحق مع أداء الواجب.
وهذا المبدأ الدستوري نجد مقتضياته الآمرة والملزمة في الفصل 37 والذي جاء فيه بصريح النص:" على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون. ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجب." وبمفهوم المخالفة فأي ممارسة لحق مكفول بموجب الدستور لا تؤطره ضوابط المسؤولية والمواطنة ولا تتلازم فيه ممارسة هذا الحق مع النهوض بأداء الواجب هي ممارسة غير مشروعة بل وغير دستورية حسب المقتضيات الواردة في دستور 2011.
وإعمالا لمبدأ وحدة الموضوع القائمة بين هذه الحقوق فمن البديهي أن كل ممارسة غير مشمولة بالضوابط الدستورية المذكورة أعلاه سينجم عنها المس بحقوق أخرى نتيجة ترابطها الوظيفي؛ وهذا ما نعاينه في حالة ممارسة حق الإضراب الذي رتب آثارا مباشرة على حق التعليم وتعداه بالتأثير سلبا وبشكل غير مباشر على حق التنمية المستدامة كحق دستوري جاء التنصيص عليه صراحة في الفقرة الأخيرة من الفصل 31 من الدستور.
كيف لا؛ والمغرب كبلد سائر على طريق النمو جعل من التنمية المستدامة إستراتيجية وطنية، بوئها مصاف الحق الدستوري الذي تسعى الدولة المغربية بكل أطيافها ومكوناتها إلى تعبئة كافة الوسائل والأسباب لتحقيقها والاستفادة من ثمارها على قدم المساواة.
خاصة وأن من بين أهداف الإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة: ضمان التعليم الجيد والمنصف والدامج للجميع، وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع وذلك من خلال ضمان دورة كاملة من التعليم الجيد لكل الفتيات والفتيان (الأولي والابتدائي، والثانوي)[2].
ثانيا: مقاربة حقوقية استشرافية
بوقوفنا فيما تقدم أعلاه على الأهداف العميقة للدستور المغربي فيما يخص كل من الحق في الإضراب والتعليم والتنمية المستدامة وضرورة ممارستهم وفق ضابط المسؤولة والمواطنة كما نص عليه الدستور، يمكن حصر أطراف هذه المعادلة الحقوقية في كل من نساء ورجال التعليم، التلاميذ والدولة، نعم فالدولة تتحمل مسؤولية دستورية واضحة المعالم" فالتعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة" (الفصل 32 من الدستور) كما " تعمل الدولة و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات و المواطنين على قدم المساواة من الحق في : الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج و ذي جودة؛ - التنمية المستدامة" (الفصل 31 من الدستور).
فمسؤولية كل واحد من أطراف هذه المعادلة ثابتة بصريح النص الأسمى للمملكة، والدولة بكل مكوناتها وتمثلاتها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الدور الأساسي المنوط بها دستوريا في ضمان ممارسة هذه الحقوق ، فالدستور يضمن حق الإضراب لكن الدولة في إطار سلطتها التشريعية لم تخرج بعد قانونا تنظيميا يحدد شروطه و كيفيات ممارسته كما نص على ذلك الفصل 29 من الدستور الذي أقر على أن " حق الإضراب مضمون ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته"و الإضراب حق مضمون كوسيلة للاحتجاج إلا أن نساء و رجال التعليم لم يعتبروا شرط الموازنة بين ممارسة الحق والنهوض بالواجب وهو ضابط دستوري يجب الالتزام به فمسؤوليتهم المعنوية قائمة خاصة و أن حق التلميذ في التعلم هو حق أساسي لم يحترم، فالحل المعقول لضمان تنزيل هذه الحقوق إلى أرض الواقع بشكل عادل يكمن في الموازنة بين الحق و الواجب و اعتبار المصلحة الفضلى للتلميذ.
أما فيما يتعلق بأزمة المدرسة التي نعيش أطوارها في هذه الأيام والمكللة بإضرابات تخوضها أسرة التعليم لتحقيق مطالبها وهي مطالب مشروعة ولا أحد يجادل في ذلك، غير أن لا حد أيضا ينكر الآثار السلبية لهذه الاحتجاجات و ما قد تسببه من تراجع في مستوى تلاميذ المدرسة العمومية بالخصوص وضرب لحقهم الدستوري في تلقي التعليم مما قد ينعكس سلبا على مسارهم التكويني بل و قد يعرضهم لانتكاسة نفسية ويعدم ثقتهم في المدرسة العمومية فما ذنب هؤلاء الأطفال اليافعين، الذين وثقوا في مؤسساتهم التعليمية واستشفوا خيرا من أساتذتهم الأجلاء.
وأسوق في هذا المقام نموذج لمبادرة قام بها رجال ونساء التعليم في دولة إنجلترا على إثر إضرابهم احتجاجا على معاناتهم وأملا في رد الاعتبار لهم، حيث أرسلت بعض المدارس بريدا إلكترونيا للآباء جاء نصه كالآتي:
" إننا على يقين من أن جميع الآباء حزنوا على نبأ عدم تمكن الحكومة من التوصل لاتفاق مع نقابات التعليم، ونتيجة لذلك سوف يكون هناك إضراب للمعلمين، يوم الأربعاء القادم، والذي قد يتسبب في تعطيل الدراسة، لأننا نؤمن بأن الإضراب حق شرعي للمهنة، ونحن ندعم ونتضامن مع أصحاب الحقوق من المعلمين، الذين يعيشون ظروفا صعبة في السنوات الأخيرة، وأن المدرسة قد تضطر إلى التحول إلى التعليم المنزلي، في حالة لم تنجح الإضرابات في تلبية طلبات المعلمين." وفي محاولة لطمأنة الآباء أشار البريد الإلكتروني أن المدرسة حريصة على تخفيف آثار الإضراب على التلاميذ، وسوف تقدم كل ما في وسعها لاستغلال الموارد البسيطة والمتاحة لمساعدة التلاميذ خلال فترة الإضراب.[3]
خاتمة:
نعم الكل يتفق ويعاين بل ويتعاطف مع الحالة التي آلت إليها المدرسة العمومية وخصوصا نساء ورجال التعليم الذين أصبحوا يعانون وابل من الإكراهات اليومية وأن متطلبات العيش الكريم باءت تؤرق مضاجعهم شأنهم شأن كل الكادحين إلى لقمة العيش ولا أحد ينكر عليهم مشروعية مطالبهم وصوابية نضالاتهم فكرامة الأستاذ من كرامة المجتمع، لكن ما ذنب هؤلاء التلاميذ والتلميذات الذين يهدر زمنهم الدراسي ويستباح حقهم في التعلم وأملهم في مستقبل أفضل يستشرفون بوادره من خلال تنمية مستدامة هي حق مكفول بموجب الدستور.
يوسف الغوناجي دكتور في القانون
[1] حقوق الإنسان ووضع الدستور، منشور من منشورات الأمم المتحدة صادر عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (مكتب المفوضية السامية نيورك جنيف 2018)