الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد هرار: الإعلام رسالة وليس وسيلة يا عالم

محمد هرار: الإعلام رسالة وليس وسيلة يا عالم محمد هرار
لم يكن الإعلام الغربيّ عند تغطية الحروب التي شنّتها بعض الدّول الغربيّة، كأمريكا وفرنسا وحلفاؤهما؛ منصفا ولا كان محايدا، إلّا ما كان من بعض الاستثناءات التي لا تكاد تُذكر. يجتنب الصّدقَ في النّقل ليُبعد عنه ما يمكن أن يُتّهم به أو يُحرجه أمام القوى الفاعلة في هذا العالم المنافق المتصرّف دائما باستعمال المعايير المختلفة والمزدوجة.
 
لقد مكّنني وجودي في البلاد الاسكندنافيّة لعقود، من الاطّلاع على الإعلام فيها، لا سيّما في البلد الذي أقيم فيه (الدّنمارك) فوجدته في عمومه إعلاما موجّها يطبّق التّعليمات الخفيّة لا يصمد على الوقوف مع الحقّ ولا يستطيع أن يعكس الحقيقة ناصعة شفّافة. أتابع ما يجري الآن من حرب إبادة لسكان قطاع غزّة المحاصر جوّا وبحرا وسياسيّا من القريب قبل البعيد، وألاحظ ما بدأ يطرأ على سكّان العالم عموما من تغيّر إلى صالح القضيّة الفلسطينيّة بعد أن تجلّت لهم وحشيّة وإرهاب دولة الكيان المحتل، حتّى تحدّث النّاس عن نظام الفصل العنصريّ وطالبوا بإزالته وعدم الوقوف مع مَن يُسنده.
 
غير أنّ ماكينة البروباغندا الإعلاميّة الرّسميّة لازالت تحاول إخفاء ما لا يُخفى، وتدليس ما لا يُدلّس. فالقارئ الدّنماركي الذي يقرأ لهذه الصحافة على سبيل المثال، أو يسمع لوسائل إعلامها، هو نفسه الذي يشارك في المسيرات اليوميّة المنادية بتجريم المحتلّ ووقف هذه الحرب المجنونة المدمرة، ويطالب بمحاكمة صانعيها والقائمين عليها والمسندين لها دوليّا بتهم جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، ولا أحسب أنّهم سيقتنعون بما تروّج هذه الصّحافة غير الواعية وغير الحرّة من أكاذيب وأراجيف يُشيعها المعتدي الإسرائيليّ الغاصب بلا حياء ولا خجل، في مشهد بئيس يظهر هذه الصّحافة مشاركة في الجريمة تلطّخ أياديها بدماء الأبرياء دون حرج ودون انتباه لما يلحق رسالتها الإعلاميّة من تهكم حاليّ ومستقبليّ.
 
لم تكتف بحجب الحقائق ولكنّها انخرطت في تدليسها وتزييفها وتحريفها، تريد بذلك إظهار مقاوم الاحتلال، في صورة الإرهابيّ المعتدي على المحتلّ، وتُعمي عينيها عن كلّ ما حرّك البشريّة قاطبة من صور ومشاهد تقشعر لها الأبدان؛ من قتل الأطفال والنّساء والشّيوخ، ومن التّهجير القسريّ ومن استباحة المحرَّم دوليّا كاستهداف المستشفيات وقتل من فيها واستهداف سيّارات الإسعاف والكادر الطّبّيّ والمدارس وغيرها من المرافق، إلى جانب منع وقطع كلّ أسباب الحياة، من ماء وطعام وكهرباء ووقود وإنترنت.. تريد حجب كلّ ذلك عن المواطنين الدّنماركيّين، رغم خروج هذا الشّعب الإسكندنافي الشجاع كما أسلفت يوميّا إلى الشّارع، وذلك منذ اليوم الأول للاعتداء على قطاع غزّة المحاصر غاضبا مندّدا.
 
لم يكلّ هذا الشّعب من تسيير الأعداد الغفيرة من النّاس مندّدين بالحرب الهمجيّة التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيليّ الغاشم، مدعوما بأمريكا عتادا وعدّة وعسكريّين، وبألمانيا وفرنسا والاتّحاد الأوروبيّ في منسّقيته. كأنّ الإعلام الرّسمي يعيش في دولة غير بلده الذي يشهد هذا الحراك المستمر الذي لا يتوقّف. كأنّه لا ينتبه إلى التّململ ضدّه، فقد لاحظ النّاس عدم مصداقيته حتّى زحفوا إلى دور بثّه ونشره، يعتصمون أمامها؛ لعل ضمير المتحكمين في تلك والوسيلة الإعلامية المؤثرة يتحرك أو يستيقظ.
 
كنت عشية العاشر من نوفمبر، أمام مبنى إحدى أكبر القنوات في البلاد نفودا وتأثيرا في الرّأي العامّ، وكان الاعتصام يضمّ آلافا مؤلّفة من الدّانماركيّين بِيضِ البشرة شُقْرِ الشّعر زُرقِ العيون، غير أنّ الكاميرات لم تنتبه لهم بل لم تعِرهم اهتماما ولم تستمع لأصواتهم المندّدة بالحرب وبسلوكهم غير اللّائق، وبتبعيّتهم غير المفهومة!!. لم تلتفت لشعاراتهم ولا لهتافاتهم التي كان منها (نشعر بالخجل أنّنا دانمركيّون)، (قولي كوبنهاجن؛ لا لحرب الإبادة في غزّة)، (للأطفال في غزّة الحقّ في العيش)، (للجميع في غزّة لهم الحقّ في العيش)، (hvem dræber børn i krig, det er mettes hykleri، نفاق رئيسة الوزراء ميتا هو الذي يقتل الأطفال في غزّة)، (تعيش فلسطين حرّة أبيّة)...
 
نعم، لا يزال الإعلام الدّنماركيّ كغيره من الإعلام الغربيّ؛ يمارس التّدليس في تغطيته لحرب الإبادة في غزّة، ولا يعتمد إلّا على الرّواية الإسرائيلية الكاذبة، ويتصرّف كما لو كان طرفا في الحرب!!. أمّا استجوابات بعض هذه الصّحافة لبعض الوجوه المرموقة في البلاد، فتجدها تركّز على حماس، يركّزون على السّابع من أكتوبر 2023 دون إشارة ولو بسيطة إلى الجريمة الأصليّة المتمثّلة في الاحتلال ونظام الفصل العنصريّ، والتي استمرّ اقترافُها عشرات السّنين ومنذ 75 عاما.
 
لقد أساء هذا الإعلام للدّنمارك ذات يوم من سنة 2005 باسم حريّة التّعبير، وهو اليوم يسيء لها باسم الحميّة المنحازة للظّالم الغاصب، وعسى أن ينجح الدّنماركيّون الأحرار بحكمتهم - وقد استفاقوا وعرفوا الحقّ من الباطل - في تعليم هذا الإعلام كيف يكون النّطق بالحقيقة، وكيف يمكنهم مناصرة الحقّ إحقاقا له، دون الرضوخ لسيطرة اللوبيات المتحكمة في بيادق اللعبة السياسية في البلاد.