في البداية لا بد أن أشكر الأستاذ سعيد بنيس على هذه الدعوة الكريمة للمساهمة في قراءة هذا الكتاب القيم الذي ما أحوجنا إليه في هذا الزمن الذي تاهت فيه السياسات العمومية ذات الصلة بتنزيل مقتضيات دستور 2011 وخصوصا ما يتعلق منها بالقضايا اللغوية والثقافية والهوياتية، فالكتاب يحوي كل عناصر الإقناع الضرورية للترافع من أجل:
1- مصالحة الوطن مع ذاته من خلال مصالحته مع لغتيه العربية والأمازيغية وكل التعابير اللغوية المغربية المتفرعة عن اللغتين؛
2- التنزيل المنصف لمقتضيات القانون التنظيمي رقم 16. 26 بشأن مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ومراحل إدماجها في مجالات التعليم وباقي مناحي الحياة العامة ذات الأولوية؛
3- جهوية متقدمة تحكمها جدلية التنوع والتمازج والتي لا مكان فيها للتنافر الهوياتي ولغلبة الخصوصي والجهوي على الوطني؛
4- سياسات عمومية تنتصر للأمن اللغوي والثقافي والهوياتي للمغاربة.
بعد انتهائي من قراءة الكتاب فكرت مليا عن أنجع السبل لنقل بعض من كنوزه للحضور الكريم في هذا اللقاء، خصوصا وأنه جاء بعد كتاب آخر للأستاذ بنيس اختار له من العناوين "تمغربيت: محاولة لفهم اليقينيات المحلية"، قبل ان يقع اختياري على التفاعل مع سؤال هام وجوهري طرحه أستاذنا في الصفحة 75 من الكتاب على الشكل التالي:
هل ستفضي هذه الحركية (الحركية المدنية الأمازيغية) إلى زعزعة مقولة الانسجام الوطني والهوياتي في المغرب؟ أي أن المطالب اللغوية والثقافية أصبحت ذريعة مباشرة للمطالبة بأشكال متعددة من فك الارتباط مع مؤسسة وهوية "الوطن" ولتعويضها بكيانات متعددة الأبعاد: جهوية داخلية (الريف تافيلالت) أو جهوية إقليمية خارجية (شمال إفريقيا) أو كيان جغرافي "تاريخي"(تمزغا) تمتد حدوده عبر الدول والأوطان. كما تتميز هذه الكيانات التعويضية بكونها لا تقحم المكون العربي بل ترفضه في غالبيتها لأنه يشكل في نظرها عنصرا مهيمنا ومكتسحا يتعارض مع خصوصياتها وفرادتها الثقافية والغوية.
اخترت التفاعل مع هذا السؤال المركب لأنني أعتقد ان مساري كفاعل مدني أمازيغي يسمح لي بالقيام بذلك (رئيس منظمة تاماينوت سابقا ورئيس تكتل تمغربيت للالتقائيات المواطنة حاليا) وسأنطلق في تفاعلي مع هذا السؤال من مقاربة محمودة طرحها الأستاذ بنيس بقوله "من المحمود أن تقارب الأمازيغية في شقها المخصص للحقوق الثقافية واللغوية من منظور إجمالي يستند إلى مقولة أساسها تقاسم وتمازج نفس الحقينة الأنثروبولوجية (إنسانية لغوية وثقافية)". وسأحاول النبش في ذاكرة الحركة الأمازيغية وما أنتجته من أدبيات حتى يكون تفاعلي أقرب ما يكون مما كانت عليه الحركة الأمازيغية منذ 1967 وما أصبحت عليه منذ 2001 مع تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
أقول قولي هذا وأحيل على كتاب " النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها" لعميد النهضة الأمازيغية الراحل إبراهيم أخياط (1941 – 2018)، وعلى تقارير أشغال جمعية الجامعة الصيفية مند دورتها الأولى سنة 1980 (الجامعة الصيفية كانت مركزا للتفكير حول الشأن الأمازيغي) . ففي هذه الدورة والتي حضرها مثقفون ونشطاء من كل جهات المغرب للتداول بشأن واقع ومستقبل الأمازيغية بكل أبعادها، تم الاتفاق على ثوابت واستراتيجية عمل الحركة الامازيغية، والتي انضبطت لشعار تلك الدورة "الثقافة الشعبية الوحدة في التنوع".
وقد كانت هذه الدورة أول خروج إلى العلن لخطاب الحركة الأمازيغية والذي بلورته فعالياتها طيلة عشرية السبعينات في لقاءاتها الداخلية، وقد لعب الأستاذ احمد بوكوس دورا أساسيا في هذه الدورة المهمة والتاريخية والحاسمة في تاريخ الحركة الأمازيغية، وقد قال عنه الراحل إبراهيم اخياط في كتابه:"فالاخ احمد بوكوس يرجع إليه الفضل في إعطاء الخطاب الامازيغي طابعه الحداثي، انطلاقا من العلاقة التي كانت تربط القضية الامازيغية بقضية النضال الشعبي والثقافة الشعبية في مواجهة الثقافة النخبوية والرسمية، التي كانت تحتكر كل مؤسسات الدولة وتنظر إلى اللغة والثقافة الشعبية نظرة دونية".
هذا الطابع الحداثي والوحدة في التنوع كخط استراتيجي والنهل من الشرعة الدولية لحقوق الانسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين لسنة 1966 اللذين يتعلق أحدهما بالحقوق المدنية والسياسية والآخر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، يفسر اختيار الجيل المؤسس للحركة الأمازيغية للمقاربة الإندماجية كسبيل لمواجهة الإقصاء والتهميش.
ويكفي أن نعرف أنه في نفس السنة التي نظمت فيها الدورة الأولى للجامعة الصيفية، شهدت الجزائر أحداث الربيع الأمازيغي (أبريل 1980) التي شابتها أعمال العنف والاعتقالات، والتي مازالت ترخي بظلالها على المشهد السياسي الجزائري وتهدد كيان الدولة الجزائرية (من بين المعتقيلن في تلك الأحداث يوجد "السيد فرحات مهني" الزعيم الحالي لحركة المطالبة باستقلال القبايل عن الدولة الجزائرية)، للتأكيد على أن الجيل المؤسس كان حكيما ومؤمنا بأن العبقرية المغربية التي أنتجت "الدارجة المغربية" باعتبارها مجال توارد بين الأمازيغية والعربية، يمكنها أن تحافظ على كل مكونات ثقافتها الغنية وعلى لغتيها العربية والأمازيغية وتعابيرهما المحلية والمناطقية.
إن خطاب الحركة الأمازيغية كما بلور سنة 1980 وتأكيده على أن الثقافة الأمازيغية جزء لا يتجزأ من الثقافة الشعبية المغربية ينسجم في اعتقادي مع ما ذهب إليه الأستاذ سعيد بنيس حين قال : "أن الاختلاف (بين المغاربة) لغوي صرف، أما تمثل العالم القيمي وثقافة المجال والمحيط فهو مشترك مغربي. فيبدو "العنصر البشري" في المغرب عنصرا متجانسا، والفرق الوحيد والاختلاف البين الذي يظل قائما هو المتعلق باللسان، بمعنى أن هناك مغاربة ناطقون باللغة العربية (تنويعات عربية) وآخرون ناطقون باللغة الأمازيغية ( تنويعات أمازيغية)".
الاختيارت الحداثية والعقلانية الذي استقر عليها الجيل المؤسس ساهمت في اختراق خطاب الحركة الأمازيغية للأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني التي التحق الكثير من أطرها بالحركة الأمازيغية (خصوصا من تنظيمات اليسار). وظهرت نتائجه (الاختراق) بالخصوص في الدورة الثالثة لجمعية الجامعة الصيفية سنة 1988 حيث حضرتها قامات فكرية وطنية من بينها الدكتور الراحل محمد جسوس الذي أشار في محاضرة له في تلك الدورة إلى " أن من يشك في الأمازيغية فهو كمن يشك في الإسلام، وأن المغربي كمن يسير على قدميه فلا بد له من اللغتين الأمازيغية والعربية" (المرجع كتاب إبراهيم أخياط الصفحة 165).
وقد استثمرت نخبة الحركة الأمازيغية نجاح الدورة الثالثة للجامعة الصيفية، في التفكير في ميثاق تؤطر به تزايد أعداد الملتحقين بالحركة واختلاف توجهاتهم، خوفا من انحراف خطاب الحركة وانزياحه عن المقاربة الإندماجية وشعار الوحدة في التنوع، وتجنبا لمخاطر السقوط في ما قال عنه الأستاذ بنيس "زعزعة مقولة الانسجام الوطني والهوياتي بالمغرب". وقد تأتى لها ذلك في الدورة الرابعة للجامعة الصيفية بأكادير غشت سنة 1991، حيث شكلت لجنة تمثل كل جهات المغرب وكل التعبيرات اللغوية الأمازيغية، لإعداد مسودة الميثاق الذي أكد على: "الوحدة في التنوع وعلى أن الثقافة المغربية تتمثل في البعد الأمازيغي والبعد العربي والبعد الإفريقي والبعد الكوني وهي أبعاد لا يمكن اختزالها في بعد أو نموذج واحد على حساب الأبعاد الأخرى".
وقد شكل هذا الميثاق (ميثاق أكادير) الإطار الذي انخرطت فيه كل أعمال الحركة الأمازيغية، كما كانت مضامينه وما تفرع عنها من شعارات (لاديمقراطية بدون أمازيغية، الأمازيغية مسؤولية جميع المغاربة)، جسرا موثوقا بين الحركة الأمازيغية وباقي أطياف الصف الديمقراطي بالمغرب طيلة عشرية التسعينيات.
كما أطّرت روحه انخراط بعض الجمعيات الأمازيغية في الحركة العالمية حول حقوق الشعوب الأصلية، منذ 1995، والذي توج بإلإعلان العالمي حول حقوق الشعوب الأصلية المعتمد من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 13 سبتمبر 2007. فانخراطها ظل وفيا لخصوصية الحالة المغربية ولأجل ذلك دافعت عن تضمين الإعلان ما يؤكد على أن حالة الشعوب الاصلية تختلف من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر وأنه ينبغي مراعاة ما للخصائص الوطنية والإقليمية ومختلف المعلومات الأساسية التاريخية من أهمية. فقد شرحت للعالم بأن الأمازيغ ليسوا أقلية ولا شعبا أصليا مهينما عليه وبأن حالة الأمازيغ في المغرب لها خصوصياتها. ( المرجع: تقارير منطمة تاماينوت من سنة 1995 إلى 2006).
لقد ساهم الخطاب العقلاني والحداثي الذي بلوره الجيل المؤسس للحركة الأمازيغية في إثراء الخصوصية المغربية وتدبير تنوعنا الثقافي بما يلزم من الحكمة، وخير دليل على ذلك مضامين الخطاب الملكي بمناسب ذكرى عيد العرش سنة 2001 وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وصولا إلى مضامين دستور 2011.
عود على بدء، أتمنى أن تساهم هذه الإضاءات في تقديم بعض عناصر الجواب على سؤال الأستاذ سعيد بنيس، كما ساهمت على ما اعتقد في تصحيح منظور بعض القوى الخارجية لبلادنا وفرادة نموذجها الهوياتي، وأقصد وزارة الخارجية الأمريكية التي أدركت مؤخرا أن الأمازيغ ليسوا أقلية بالمغرب وأشارت في تقريرها الأخير إلى أن الأمازيغ شعب أصلي، بعد ان تخلت عن تصنيف الأمازيغ بالمغرب ضمن الأقليات، لتؤكد في القسم الفرعي الخاص بالسكان الأصليين من تقريرها الأخير حول حقوق الإنسان بالمغرب على ما يلي: ” أفاد معطم السكان، بما في ذلك الأسرة المالكة، بأن لديهم بعض الإرث الأمازيغي…”.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية استوعبت أخيرا مضامين حوار صحفي للملك محمد السادس مع جريدة لوفيغارو الفرنسية، يوم 4 شتنبر 2001، حيث قال ملك المغرب جوابا عن سؤال حول المقارنة بين القضية الأمازيغية في المغرب والجزائر: ” إن مطالبهم ليست هي نفسها مطالب القبايل. فعندنا الحساسية الأمازيغية – وليس البربرية – هي حساسية اندماجية. فأنا مغربي قبل أن أكون أمازيغيا أو عربيا وهناك مغاربة أمازيغ وآخرون من أصل عربي أو إفريقي أو أندلسي، فأبي كان من أصل عربي فيما أمي أمازيغية وهذه الحقيقة تعبر عن العبقرية المغربية”.