من المؤكد أن الجنرال دوغول مؤسس الجمهورية الخامسة بفرنسا سوف يتقلب في قبره عندما يعلم بموقف بلاده وبرئيس الجمهورية الفرنسي الحالي بالدعم اللامشروط لسياسة إسرائيل الاستعمارية تجاه الفلسطينيين. وهي سياسة انتهجها دوغول في قطيعة مع سياسة الجمهورية الرابعة التي كانت هي الأخرى الحليف المطلق لإسرائيل في حروبها الاستعمارية ضد الفلسطينيين والعرب.
وهو ما أصبح يسمى في السياسة الخارجية لفرنسا "بالسياسة العربية لفرنسا،" والتي بدأها الجنرال وتطورت مع باقي الرؤساء خاصة فاليري جيسكار ديستان وجاك شيراك. وهي سياسة سوف يتراجع عنها لأول مرة وبشكل واضح في تاريخ الجمهورية الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولند الذي نهج سياسة التأييد المطلق لدولة الاحتلال، لاعتبارات ايديلوجية خاطئة وهي تدخل في إطار التحالف التاريخي مع حزب العمل الإسرائيلي العضو بالاممية الاشتراكية والذي اختفى من الساحة السياسة الإسرائيلية ولم يعد له تأثير، التي أصبح يهيمن عليها اليمين المتطرف الفاشي ونتانياهو مند عقدين تقريبا. وهو ما اذكى التطرف السياسي بالمنطقة والذي لا يتوقع أحد انعكاساته على كافة الشرق الأوسط. نيكولا ساركوزي الرئيس السابق، رغم قربه من الجمعيات الإسرائيلية الحليفة للكود ولنتانياهو بفر نسا فانه حافظ على التوازن في سياسته تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية وكان لا يتق في نتانياهو.
اليوم نرى ان سياسة الحكومة الفرنسية وسياسة رئيس الدولة ايمانويل ماكرون هو الدعم والمساندة الملطفة واللامشروطة لسياسة الاحتلال الإسرائيلية، بل يتم تبني سياستها العنصرية وهي عدم معاملة الفلسطنيين كضحايا بل كمعتدين وهو ما يعني تبني رواية المتطرفين بإسرائيل. وهو تحول كبير في السياسة الخارجية لفرنسا والتي بدأت مع الجمهورية الخامسة عندما أعلن دوغول التخلي عن الدعم المطلق الذي قامت به الجمهورية الرابعة بما فيه مساعدة إسرائيل في برنامجها النووي وتزويدها بالسلاح المتطور. وهي تعكس التحول الذي عرفته سياسة الكي دورسي الذي تم ابعاده على القرار في السياسة الخارجية لهذا البلد والتي أسندت الى خبراء بالإليزيه اغلبهم في بداية المشوار السياسي وليست لهم اية تجربة سياسة. وهو ما يفسر فشل السياسة الخارجية لفرنسا في مناطق أخرى من العالم خاصة بافريقيا والمغرب العربي.
تاريخ هذه السياسة الفرنسية بمنطقة الشرق الأوسط تحولت بشكل كبير اليوم، وفقدت فرنسا دورها كوسيط يحظى بالثقة في المنطقة من اجل إيجاد حلول للقضية الفلسطينية. ورغم هذا الدعم اللامشروط مازالت فرنسا لم تتخلى بعد عن حل الدولتين أي دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل الذي يطالب به نتانياهو وحلفائه في اليمين الفاشي والعنصري.
عندما تخلت فرنسا عن سياسة الجنرال دوغول في تعاملها مع القضايا الفلسطينية والقضايا العربية. تاريخيا فرنسا كانت الى جانب إسرائيل وبداية المشروع الاستعماري، في سنة 1947 صوتت على قرار الأمم المتحدة الذي اقر بتقسيم فلسطين الى دولتين دولة عربية ودولة يهودية. وظلت فرنسا الى جانب هذا المشروع الاستعماري الى جانب بريطانيا وفي ازمة السويس سنة 1956 وقفت الى جانب إسرائيل ضد مصر.
حرب الأيام الستة التي نشبت بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والعراق والأردن بين 5 يونيو 1967 والعاشر من الشهر نفسه، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، وهو ما شكل صدمة للبلدان المجاورة.
بعد هذه الحرب اخذ الجنرال دوغول قرارا بوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة ودعم قرار مجلس الامن للأمم المتحدة بإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية. وكان تحولا في الموقف الفرنسي وسياستها بالمنطقة بمعارضة سياسة الاحتلال بل انها طورت علاقاتها بالبلدان القومية العربية آنذاك مثل العراق. مما جعل فرنسا تبتعد عن سياسة إسرائيل التوسيعية وتطوير علاقاتها ببارقي البلدان العربية.
لكن هذه القطيعة السياسية بين البلدين سوف تنتهي مع فرنسوا ميتران ممثل الحرب الاشتراكي والذي كان قريبا من حزب العمل، وقام بزيارة إسرائيل، وهي اول زيارة لرئيس فرنسا وعبر عن صداقته لإسرائيل، لكنه في نفس الوقت لم يتجاهل حقوق الفلسطينيين واستقبل بباريس ياسر عرفات الذي كانت تعتبر إسرائيل منظمته أي منظمة التحرير الفلسطينية منظمة «إرهابية." وبالتالي يمكن القول رغم قربه من إسرائيل لم يتخل عن حقوق الفلسطينيين.
ونفس السياسة سار عليها جاك شيراك وهو الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وحقهم في دولة ذات سيادة وفي هذا الإطار زار رام الله سنة 1996 وتميز شيراك أحيانا بخطاب حاد تجاه إسرائيل التي لم تكن كعادتها تحترم التزاماتها بالسلام تجاه الفلسطينيين. الجميع يتذكر حادثة القدس وصرامة جاك شيراك تجاه القوات الإسرائيلية التي ارادت منعه من التواصل مع الفلسطينيين وهو ما جعل من الرئيس الفرنسي الرجل الأكثر شعبية في تاريخ فرنسا والعالم العربي والإسلامي.
اليوم السياسة الفرنسية تراجعت بالمنطقة رغم مطالبتها بحل الدولتين، الذي يبق مجرد تذكير بالمبدأ وتجنب انتقاد سياسة إسرائيل الاستيطانية وسياسة الإبادة ضد سكان غزة والقمع المستمر للفلسطينيين ونزع أراضيهم بالضفة الغربية.
سياسة تبني رواية دولة الاحتلال بدأت مع رحيل جاك شيراك، وتحولت بشكل جدري مع فرنسوا هولند بسياسة الدعم اللامشروط لإسرائيل والتخلي عن سياسة متوازنة وهو ما يتم مع ايمانويل ماكرون اليوم حيث الدعم اللامشروط لإسرائيل ومنع التظاهرات المؤيد لسلام ووقف الحرب بغزة وقمع المتظاهرين من خلال الرقم القياسي للغرامات ضدهم. وهو ما يجعل الحكومة الفرنسية في علاقة توثر مع أكبر جالية عربية ومسلمة بأوروبا مستقرة فوق أراضيها. ولأسباب انتخابية ضيقة ومجارات راي عام فرنسي أصبح اغلبه محافظ وقريب من أفكار اليمين المتطرف الذي سوف يصل الى الحكم بفرنسا في الانتخابات المقبلة وبكل تأكيد لان كل الطبقة السياسية أصبحت تركض وراء أفكاره وتنافسه عليها خاصة وسط اليمين الكلاسيكي والاغلبية الحاكمة حاليا.
فرنسا التي تتوفر على أكبر جالية مسلمة وأكبر جالية يهودية بأوروبا، كان بإمكانها لعب سياسة متوازنة من اجل سلم حقيقي بالمنطقة وحل الدولتين، لشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي لكن سياسة الركض وراء الاستطلاعات والطموحات الانتخابية الضيقة ستحول باريس الى عاصمة تتبنى الرواية الرسمية لإسرائيل وتابع لها وبدون أي تأثير بالبحر المتوسط والشرق الأوسط.