الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

منتسب: قتل الفلسطينيين..رسالة إلى صديق قديم

منتسب: قتل الفلسطينيين..رسالة إلى صديق قديم سعيد منتسب
في لحظة ما من الحكاية، قلت بيني وبين نفسي لا بد أنك، يا خالد، تغمض عينيك الآن حتى لا ترى، وترفع درجة الموسيقى إلى أقصى حد حتى لا تسمع، كما لا بد أنك تبحث في هذه اللحظة عن بند "إنساني" لإخراجك من الحرج. كتبت في السابع من أكتوبر: "كلنا إسرائيليون"، وعدت مرارا وتكرارا لاستهوال ذلك الهجوم الذي شنته الكتائب، كأنك حصلت على وظيفة جديدة. لم تبحث لهؤلاء عن أي أعذار. لم تقل إن الأرض لحظة عصيبة. فكرت في حبيبتك أمريكا، وارتميت  بطيش في أحضان زيارتك المشؤومة لتل أبيب. أكرر مرة أخرى أنني ضد حماس، لكني لن أعطي لنفسي الحق بأن أكون مع إسرائيل.
كان بإمكاني أن أفهم أن ذلك الهجوم شوَّش تفكيرك، لكنك تتكلم كما لو كنت مسؤولا عن إسرائيل. تتكلم كمدفعية ثقيلة، وتسدد طلقاتك بشكل متسارع كأنك خائف من فوات الأوان. لم تنتظر أن تتضح الرؤية قليلا. سرت في ركب ذلك الكيان الغاصب، ومنحته الحق في الرد، وأسهبت في محاولة الإقناع كما لو أنك بصدد بيع مكنسة كهربائية.
الحق في الرد! لم يكن أمامك أي خيار آخر سوى ترديد ما قاله أصدقاؤك الجدد، من دون أن تقدم أدنى دليل على أنك لست تابعا لأحد. لماذا اختفيت إذن حين اتضح أن أسيادك يستأجرون مقاتلين أمريكان وفرنسيين، وأنهم وضعوا عروضا خاصا بالاسترزاق الحربي، ويدفعون على الفور لمن ينجح في إسقاط قنبلة على مستشفى آهل بالمرضى أو دك حي ممتلئ عن آخره بالأطفال؟
لماذا تراجعت نحو المقعد الخلفي للكلام؟ هل أطلعوه على الكالتالوغ الأصلي للقتل؟
من حين لآخر، أسترجع ببطء ما كان يجمع بيننا من تطلعات، كنت تفتح لي باب منزلك كما كنت أفعل، نستمع معا إلى أغاني مارسيل خليفة، ونتفحص جيدا الوجوه التي تمور في قصائد محمود درويش وعز الدين المناصرة وسميح القاسم وتوفيق زياد. كم مرة زرنا فلسطين يا خالد! وكم كنَّسنا أوجاع أشجارها وحجرها!
قبل قليل كان صوتك يشبه كثيرا صوت آرييل. كان واضحا أنك لم تكن ضائعا بين الكلمات. أحرقت جميع السفن، وصرت تؤمن بإمكانية إتلاف كل شيء. أنت تعرف أن الأمر لا يتعلق بالقضاء على جرذان الأنفاق، كما كتبتَ. أصدقاؤك يريدون الفتك بأشيائنا الجوهرية على أحسن صورة، وبالكثير الكثير من اللامبالاة، وأنت تحرضهم وتساعدهم، لتلفت انتباههم إلى ضلوعك غير المشروط في مساندة سيوفهم المتقاطعة..
كان يمكن أن نفهم نقمتك لو لم تكن ناتجة عن رغبتك الجائعة في الحصول على المال. بعد زيارتك لأمريكا تغيرت، وحين عدت من تل أبيب، تسخَّم قلبك، و لا شيء يأتي منك أصبح بعيد الاحتمال. صرت شخصا آخر، أقل حزنا وحساسية، وعلى قدر زهيد من الاتزان. ماذا جرى لك هناك؟ كيف أخلوك من نفسك وحوّلوك بالضبط إلى زبون؟ لا أصدق بالفعل أنك صديقي القديم، كما لا أصدق أننا تقاسمنا الخبز نفسه وكؤوس الشاي والمطر والزقاق والمقهى والأشجار. لا أصدق أننا قرعنا أمنية بأمنية في تلك الليالي الباردة بضاحية الفقر، وأوغلنا في ما يجعلنا أشخاصا بمضامين إنسانية كثيفة. إنني أختلس النظر إلى ذاكرتنا المشتركة كمن يحترق بيته. لا أراك هناك بصحن انتصارك للمظلومين، ولا بنظرتك المملحة بحشرجة القصائد. ذهبت بعيدا، ورميت كل أيامنا المتبلة بالنشيج.
عفوا يا خالد، ليس بوسعي أن أفرغ جوفك من الأحقاد المزيفة. إنني أفهم اختفاءك وأنت ترى هذا القبر الواسع الذي تصنعه إسرائيل. أفهم جيدا سقوطك المدوي. أفهم امتنعانك قد مستطاعك عن الحديث معي، لكني لن أغفر لك انشراحك لمقتل المدنيين العزل. هل تعرف كم بلغ عددهم الآن؟ عشرة آلاف قتيل والبقية تأتي. 
لم تعد ترد على مكالماتي، لأنك تعلم بأنني سأكون قليل الصبر عليك. سأذكرك بما تحاول أن تنساه، بورطتك باهظة الثمن، بالأفكار التي صنعناها بثوب أحلامنا لنقوم بجولة أكيدة إلى يافا وحيفا ودير ياسين. أذكر أنك كنت تغمر كتفيك بكوفية كأنك على وشك الحجارة. هل تذكر زمن الانتفاضة؟ هل تذكر نشيد الحجر؟ هل نسيت عرس الدم؟
إني يائس من اختفائك، وأعرف أنه دليل لامبالاة مطلقة. حقنوك بجرعة زائدة من الامتيازات. صرت تخاف على الغد واليوم الذي يليه. هل بوسعك أن تنظر إلى الخلف؟ هل يمكنك التحديق طويلا في خيبة أبيك، المحارب الأمازيغي الطيب؟ "با ابراهيم", هكذا أناديه حين كان يغذينا باشتعاله وأنفته وارتفاعه وعمقه ورجولته وإنسانيته. ليس من حقك أن تقتل هذا الرجل، كما ليس من حقك أن تضع حدا لآماله فيك. لن يصدق والدك إطلاقا هذا الأمر، وسيفضل لو كان مصابا بالعقم على أن يرى جملتك الرهيبة "كلنا إسرائيليون" تتدلى بدخانها من رأس ابنه خالد!