في إحدى أمسيات باريس، وب"مقهى الملائكة" بشارع لاروكيت، كنت رفقة العزيز بوجمعة أشفري نتأمل المكان، ونستعيد صور الأمس والمشترك بيننا والاستشرافات. كان اسم المكان وحده يوحي لنا بكتابة نص جميل. أما النادلات الشقراوات واللوحات المعلقة والموسيقى فتعد بتأثيث النص بالعطر الخاص لباريس. تساءلنا: لماذا لم يتأت لنا بعدُ كتابة نص عن باريس؟ ثم تذكرنا الراحل محمد باهي وكتاباته عن هذه المدينة بمجلة "اليوم السابع" خلال ثمانينيات القرن الماضي. بعدها مضينا إلى "التسكع"، أحد الألفاظ الأثيرة في معجم باهي كناية عن التجوال الطليق في الأدب والصحافة والحياة. وقتها لم أكن أعلم أن إرادة طيبة كانت تعمل بجد وتفان من أجل إعداد كتابات باهي عن باريس للطبع. وها هو الكتاب يصدر، بموازاة مع الدورة 16 للمعرض الدولي للنشر والكتاب (فبراير 2010)، وبمبادرة أخوة ووفاء من جمعية أصدقاء محمد باهي.
إن انتقال تلك الكتابات من المجلة إلى الكتاب هو سفر آخر في السياق والفكرة ومقتضيات التلقي. ولذلك اخترت أن أخصص هذه العتبة لمحمد باهي وباريس تجديدا للنظر والذكرى.
يرسم الكتاب الصادر، في طبعة أنيقة (336 صفحة)، صورة عامة عن العاصمة الفرنسية ضمن "تحقيق طويل" كما سماه باهي نفسه، موظفا كل مشاهداته ومسموعاته ومقروءاته في نسيج كتابي عميق تتلاقح فيه الكثير من الأجناس الصحفية، ولذلك تجد التداخل بين الحكي والاستطلاع والعرض والتلخيص بما يثري المقاربة، ويجعل الكتابة الصحفية تحفل بالحياة.
محمد باهي أقام للكتاب، من ناحية ثانية، معمارا خاصا بدأه بالحديث عن نهر السين العظيم الذي وهب العالمَ باريس وفرنسا برمتها، بثقافتها وثوراتها وتقاليدها... وقد أمتعني، في هذا السياق، كيف يتحدث، في الفصل الأول، عن تدفق النهر من منابعه الأولى إلى أن وصل باريس.
في رحلة التسكع عبر النهر، تم عبور قرية بار سير أوب بأرض شامبانيا حيث نشأ الفيلسوف غاستون باشلار، ثم قرية فالفان حيث منشأ الشاعر ستيفان مالارمي. وهنا يشير باهي إلى أن الكثير من سوء الفهم الذي يحيط بالأعمال الأدبية والفنية يعود إلى تغييب سياقات النشأة والمكان التي من شأنها المساعدة، في رأيه، على إعادة قراءة "الماء والأحلام" لباشلار، وشعر مالارمي على إيقاع الضوء والحركة والماء.
يستمر حديث باهي عن النهر وذاكرته إلى أن يغادر الباخرة ليتجول عبر الأرصفة وصولا إلى دهاليز التاريخ هذه المرة، وبالضبط إلى وقائع تاريخية تضمنها الفصل الثاني بعنوان مثير "حزب الله الباريسي" إحالة على وقائع وتفاصيل دقيقة كان نهر السين شاهدا عليها.
يفتتح باهي هذا الفصل مشيرا إلى تغيير في "المنهج" الذي تتبعه. فبعدما عبر باريس "بالوصف السريع والسرد المختصر، وبالوقفة الانطباعية الذاتية العابرة"، اختار هنا الإطلالة "على العاصمة من نافذة التاريخ" انطلاقا من أحد فصول الحروب الدينية التي هزت فرنسا وأوروبا على حد سواء. وتحديدا حرب القرن السادس عشر التي كانت قد نشبت انطلاقا من حادث اغتيال جرى قبل عشر سنوات. ولقد كان ضحيته أحد كبار الطائفة الكاثوليكية. ولقد رأت كاترين دي ميديدسي (أم الملك شارل التاسع) أن تستثمر ذلك الحادث لتؤجج حمأة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت رغبة منها في دعم معركة الكاثوليكية ضد البروتستانتية التي تعتبر، في نظر خصومها، "بدعة شيطانية" (ص 99). أي أن الوازع لم يكن فقط دينيا خالصا. بل كان طريقا لإحكام القبضة على المجال السياسي في فرنسا والغرب عموما. ولأن كاترين كانت ذات سطوة نافذة على الجميع، بمن فيهم الملك، فقد هيأت كل أشكال السيناريو لبلوغ أهدافها .هكذا نشبت الحرب بين الطرفين بعد أن اضطلع بأدوارها الهامة فصيل ديني كان يحمل اسم "حزب الله" المتعصب للكاثوليكية. ولقد أدت باريس ثمن ذلك التعصب إثر ما شهدتها من مجازر وحصار.
ضمن نفس السياق، يتوقف باهي عند حرب أخرى تفجرت في باريس القرن الثامن إثر إقدام الفارس العربي العملاق المسمى إيزوري أو إيسوار، ملك مدينة كويمبرا Coimbra بالبرتغال، على حصار باريس مدججا بجيش قوامه عشرون ألف جندي. وبحسب المرويات والإخباريات المتطرقة لتلك الواقعة فإن الغموض يحيط بالموضوع من ناحية التأصيل التاريخي حيث تتضارب المراجع والوثائق.
ما يهم، بهذا الخصوص، هو أن الغازي العربي كان قد أحكم بالفعل حصارا مطبقا على باريس نتجت عنه محنة غير مسبوقة بالنسبة إلى النخبة الإدارية والسياسية والعسكرية. ولقد استفحل أمرها إلى أن حصلت معجزة ما ففك الحصار. ما يعني أن الحدث المقدم باعتباره "تاريخا بشريا" قد تدرج نحو مزيد من الغموض بعد أن صار له "امتداد أسطوري". وبذلك تناثرت وقائع ذلك الحصار في مهب الحقيقة والوهم. ولم يبق منها اليوم سوى زنقة تحمل اسم La rue de la Tombe Issoire بالحي اللاتيني.
ثم يختار باهي، في الفصل الثالث، مقاربة باريس من زاوية العتمة والسراديب والقبور وشبكات المجاري وخطوط الهاتف والدهاليز وأنفاق الميترو إلى أن يعود في الفصل الرابع إلى الضوء: قلب باريس التاريخي الممتد من متحف اللوفر إلى ساحة لي فوج، ومن كنيسة سانت استان إلى كنيسة سان ميدار في الضفة اليمنى للسين.
ولأن باهي كان يقول دائما إن الحديث عن باريس سيظل ناقصا ما لم نتحدث عن مقاهيها ومطاعمها، وأن هاته الفضاءات تصلح دائما لدراسة تاريخية، فقد أنهى جولاته بالحديث عن مقهى "بروكوب" بالدائرة السادسة في قلب الحي اللاتيني، والذي كان قد أنشىء سنة 1582، وهو بذلك أعرق المطاعم والمقاهي الفرنسية. كما تحدث عن مطعم "البرج الفضي" المنشأ سنة 1686 قبالة كنيسة نوتردام، بالضفة اليسرى لنهر السين. الأول أطلق موضات المقاهي في باريس في القرن السابع عشر، وبه قُدم مشروب القهوة لأول مرة. والثاني عرف استعمال الشوكة لأول مرة. وهما معا احتضنا نقاش السياسيين والسفراء والفلاسفة والشعراء ووشايات الجواسيس. يذكر باهي، بهذا الخصوص، أن جان جاك روسو كان يأتي إلى هذا المقهى منتظرا معرفة نتائج تقديم بعض مسرحياته. كما كان دونيس ديدرو يقصد المكان بدوره لمتابعة نوعية الإقبال الذي تحظى به مسرحيته "الابن غير الشرعي".
ينتهي الكتاب بأمل محمد باهي أن تتاح له الظروف للحديث عن باريس من زوايا أخرى لم يستكملها في هذه الاكتشافات معربا عن الأمل في أن يتحقق له إنجاز كتابات لاحقة عن مدن عربية أخرى. لكنه رحل عنا، وفي تصوراته مشاريع وأحلام ومدن كبيرة، مخلفا لنا درسا راقيا في الكتابة الصحفية التي تسمو بالجمال والعلم والخيال.
كلما زرت العاصمة الفرنسية وقفت قبالة "البرج الفضي" مستحضرا ما كتبه محمد باهي عن المطعم الذي قال إنه لا يزال يحتفظ بمائدتي فولتير وجان جاك روسو، وبلوحات أثرية عريقة. وكلما زرت باريس أجلت ولوج "البرج الفضي". ربما لأن "الملائكة" تتراقص دوما في مقهى لاروكيت.
* هذا المقال فصل من كتاب سيصدر قريبا لمحمد بهجاجي مقترحا قراءات تعرف بكتب مغربية سبق أن صدرت في سياقات وفترات مختلفة. وقد خص المؤلف بنشره "أنفاس بريس" و"الوطن الآن"، مع الإشارة إلى ان العناوين من وضع هيئة تحريرنا.
[1] محمد باهي، "اكتشاف باريس"، منشورات ملتقى الطرق، الدار البيضاء 2010.
من مؤلفاته: "الجزائر في مفترق الطرق"، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2006. "كتاب الصحراء"، منشورات حلقة أصدقاء محمد باهي، دار النشر المغربية، الدر البيضاء 2006. ثم "رسالة باريس"، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 2016.