الأربعاء 27 نوفمبر 2024
فن وثقافة

بهجاجي: "التناوب والأحزاب السياسية" لعبد الكبير الخطيبي مسؤوليات عبد الرحمان اليوسفي وإكراهاته (1)

بهجاجي: "التناوب والأحزاب السياسية" لعبد الكبير الخطيبي مسؤوليات عبد الرحمان اليوسفي وإكراهاته (1) محمد بهجاجي (يمينا) وعبد الكبير الخطيبي

هل قرأ عبد الرحمان اليوسفي كتاب "التناوب والأحزاب السياسية" "الذي أصدره عبد الكبير الخطيبي في شتنبر 1998، أي بعد مضي ستة أشهر فقط على تشكيل حكومة التناوب المجهض، أو ما سمي "التناوب التوافقي"؟

سبق أن طرحت هذا السؤال ثلاث مرات:

الأولى: حين تم الخروج عن المنهجية الديموقراطية، يوم 9 أكتوبر 2002، إثر تعيين وزير أول من خارج الأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعية.

الثانية: بعد قرار عبد الرحمان اليوسفي اعتزال الحياة السياسية والحزبية يوم 27 أكتوبر 2003.

الثالثة: يوم رحيل قائد التناوب المجهض في 29 ماي 2020.

أما لماذا كان هذا الاستحضار يتعدد، بالنسبة إليّ، فذلك يعود إلى القيمة التساؤلية لكتاب الخطيبي الحافل بمنهجية تزاوج بين بسط فرضيات السؤال ومقتضيات الجواب، وبكثافة سياسية ومعرفية تدعو السياسيين والمفكرين وعموم المهتمين بالشأن العام إلى تقدير هذا النوع من القيمة. وفي تقديري هناك حلقة ضائعة تتمثل في عدم التمثل الكافي لمضامين هذا الكتاب الذي يسجل أول خروج مباشر من لدن الخطيبي، عالم الاجتماع والمفكر والأديب، من أجل مساءلة صناع الشأن السياسي العام، ووضع المشهد الحزبي أمام مراياه.

يعتبر عبد الكبير الخطيبي، في مطلع الكتاب، حكومة "التناوب" منعطفا في الحياة السياسية المغربية باعتبارها التجربة الأولى من نوعها في المغرب والعالم العربي. ولقد اعتمد المؤلف زاوية نظر تقرأ الحدث من جهة المهام والتحديات التي تواجه حكومة عبد الرحمان اليوسفي عبر استحضار سمات الظرفية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمغرب آنذاك، وتحليل إيديولوجيات وبرنامج عمل الأحزاب المغربية المعنية بهذا المنعطف، والتي تدخل التجربة التاريخية بتحالف هش.

هذا هو المجال الذي اختار الخطيبي مقاربته ضمن نص أراده تحليليا لأنه يقترح فرضية عمل ومفاهيم تصورية، وجدليا في الوقت ذاته لأنه يتبنى مواقف.

يعود الخطيبي، بخصوص الظرفية العامة، إلى سنة 1983 التي شهدت تبني المغرب لمخطط التقويم الهيكلي، وما نتج عنه من اختيارات صعبة "وضعت مصداقية الحكومة تحت حراسة شديدة من قبل الرأسمالية النقدية الدولية" (ص 31). دخلنا إذن الليبرالية رسميا. بل إن دستور 1996 قد أدرجها ضمن بنوده كما يؤكد الخطيبي، مستدركا بأن الليبرالية ليست فقط إطلاق المبادرة الخاصة، وتسريع الخوصصة... بل هناك شروط لا بد أن تتوفر في الليبرالية لتصبح حقيقية. من هذه الشروط وجود "طبقة قادرة من المقاولين ليست كطبقة أصحاب الريع الذين نعرفهم، إحداث الدولة لآليات إعادة توزيع الثروات التي أوجدتها هذه الطبقة، ووجوب وجود إدارة كفؤة وفاعلة في مقابل ذلك". ولا يتأخر الخطيبي في تأكيد أن "الليبرالية الاقتصادية، كما هي الآن في المغرب، حبيسة وضعية غير متجانسة ومقسمة" (ص 31). والنتيجة: وجود اختلالات ضمنها، أساسا، ما يهم بنية الميزانية المعتمدة في المغرب منذ سنة 1975، والتي لا تخدم التنمية حسب ما سجله فتح الله ولعلو (وزير الاقتصاد والمالية في حكومة "التناوب") ما دامت تخصص 50 في المائة للتسيير، و20 في المائة لتسديد الدين، والباقي أي 15 في المائة للاستثمار" (ص 33). ثم تصبح اللبيرالية أكثر شراسة حين يتم تفويت جزء من آليات التحكم في الاقتصاد إلى القطاع الخاص، مقابل "تحويل الكلفات الحقيقية للممتلكات والخدمات الاجتماعية إلى المستهلكين" (ص 34). من هنا تطرح مسؤولية حكومة اليوسفي في مواجهة دور الدولة المركزي والتوجيهي، ومسؤولية الأحزاب الاشتراكية المشاركة في "التناوب" في الانتقال إلى الليبرالية الاجتماعية.

توجد الحكومة إذن أمام وضع صعب. ولذلك يتعين عليها لتجاوز تلك الاختلالات أن تعمل، وفق الخطيبي، بسرعة استراتيجية مزدوجة: سرعة استثمار وتقشف، وسرعة نهج سياسة اجتماعية تعيد الاعتبار إلى السياسة، أي إلى الاختيارات الحكومية إذ كلما "ازداد عزوف الحكومة عن السياسة، حلت محلها الإدارة المكلفة بالداخلية". ومن ثم ف"المطلوب من هذه الحكومة هو مزيد من الوعي السياسي" لأن ما يعطي معنى لتسييس العمل الحكومي هو إخضاعه للمحاسبة، وتطويق الأحزاب بمسؤولياتها الأخلاقية، وبوعودها بميثاق الوفاء للشعب.

الاعتبار الثاني الذي تندرج ضمنه بداية "التناوب"، في تقدير الخطيبي، يهم هذه المرة خصوصية المشهد الحزبي، وأساسا وضعية الأحزاب المشاركة في الحكومة. ولعل أول ميزة يتوقف عندها الخطيبي هي تعدد الكيانات الحزبية، وتعرضها المتوالي للانقسام مقابل ميزة مقابلة: السعي، من حين لآخر، نحو التكتل والعمل التنسيقي (الكتلة الديمقراطية مقابل الوفاق ثم الوسط). وهذا التقسيم يربك الرأي العام، خاصة بعد تأكد عدم وضوح هوية تلك الأحزاب، مما يفضي إلى العزوف عن السياسة (ص 21).

من هنا يتساءل الخطيبي: كيف يمكن لهذه الأحزاب تأسيس نظام فاعل خارج عدم الانسجام؟ ومن هنا كذلك يعيد الخطيبي التأكيد على أن الأحزاب المغربية، خاصة تلك التي تعيش منعطف بداية "التناوب"، مطالبة بالعمل على مستويين: مواجهة الاختلالات الناتجة عن الأزمة عبر إقرار سياسة اجتماعية، ومواجهة الاختلالات على الصعيد الحزبي، مع حشد قدراتها على التعبئة والتحديث على اعتبار أننا، يكتب الخطيبي، "نعرف الحداثة كابتكار للمستقبل" (ص27).

يتدخل هنا معطى آخر يفيد في إثراء المشهد العام: تنوع وتعقد مهام الأحزاب الاشتراكية حين نستحضر أن التقنيات التي كان تضبط مسارات الأحزاب والإيديولوجيات لم تعد تطرح بنفس المفاهيم، خاصة بعد فشل اشتراكية العالم الثالث في مرحلة أولى، وتفكيك النظام الشيوعي في البلدان الشرقية وأوروبا الوسطى في مرحلة ثانية. لم يعد الاختيار السياسي والإيديولوجي بين الاشتراكية واللبيرالية يطرح بنفس المفاهيم مما أدى إلى مجيىء الديمقراطية الاجتماعية كبديل (ص 65). ومن ثم يلاحظ الخطيبي انفتاح الاشتراكية المغربية على الليبرالية (ص 69). وهو ما يراه الخطيبي بمثابة "توجه إيجابي لأنه إصلاحي أكثر مما هو ثوري، أكثر وطنية مما هو دولي".

في خاتمة الكتاب، اختار الخطيبي إدراج "رسالة إلى مناضل شاب". نص قصير مواز يكثف، بالمباشر، فكرة صاحب "النقد المزدوج" حول الأحزاب والنضال الحزبي، وأسئلة ضمن هذا السياق تهم معنى ووظيفة الحزب والمناضل.

تأتي الإجابة في شكل وصايا موجهة، بوضوح تام، إلى المناضل الشاب المفترض. لكن مطلع الرسالة يتم كما لو كان الأمر يتعلق بمونولوغ خاص:

-أنت الذي تعيش في كياني أنصت.

أما التوجيهات والنصائح فندرجها بهذا الترتيب:

- "يعمل المناضلون من أجل المصلحة العامة، ويحدث العكس من ذلك: أن تبيع الأحزاب ظلها من أجل المال، وأن تغير أخرى ضمائرها مقابل أي شيء" (ص 129).

- يجب على الحزب "الاهتمام بالروابط الاجتماعية، وبالتضامن مع الجماعات الأساسية التي توجد اليوم في توازن غير مستقر" (ص 130).

- تكمن "مهمة حزب أو جمعية ما، في هذا الميدان النافع أو ذاك، في النضال. ويسمى إعطاء دلالة إيديولوجية للنضال، غير أن الإيديولوجية وهمٌ ما لم تُجسد في فكر حي..." (ص 131).

- يجب على الأحزاب "ألا تحصر مهمتها في الاستحقاقات الانتخابية. فالحزب يعبىء، ويؤطر المجموعات الاجتماعية. لا يستعبدها، وإنما لتُسمع كلمتُها ومطالبها أيضا بهدف تحرير فضاء الحياة الجماعية" (ص 132).

ملاحظة:

* هذا النص فصل من كتاب سيصدر قريبا لمحمد بهجاجي ضمن كتاب يهم الشأن الثقافي المغربي، وقد خص المؤلف بنشره تحديدا" أنفاس بريس" و"الوطن الآن".

(1)  عبد الكبير الخطيبي، "التناوب والأحزاب السياسية"، ترجمة عز الدين الكتاني الإدريسي، منشورات عكاظ، الرباط 1999.