الخميس 9 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد علوش: حرب أوكرانيا والحروب القادمة

محمد علوش: حرب أوكرانيا والحروب القادمة محمد علوش
سأل عالم الفزياء "آينشتاين" مرة عن الحرب العالمية الثالثة وبأي سلاح ستخوضها البشرية فكان جوابه صادما "لست متأكدا من نوع السلاح الذي سيتم استخدامه في هذه الحرب لكنني على يقين أن الحرب التي سوف تليها ستكون بالعصي والحجارة. نتذكر قرار الرئيس الفرنسي بإنشاء حلف عسكري أوروبي مستقل عن الحلف الأطلسي في سياق أزمة بيع الغواصات العسكرية الفرنسية لأستراليا الصفقة تبخرت بعد التدخل الأمريكي المفاجئ وتحولت إلى دولة "العم سام". غضب فرنسا كان تحذير حقيقي لتحالف الغرب وتضارب مصالح دوله اقتصاديا على نحو غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة. (من الواضح أن الحروب القادمة ستكون حروب دول الرأسمالية المتوحشة على مصالحها).
أمريكا انتبهت مبكرا لهذا الأمر فكان لابد من افتعال أزمة حقيقية على الحدود الأوروبية لكبح الطموح الفرنسي المتزايد كحليف للدول الغربية الموثوق به والتصدي لاستمالة الدول الأوربية الأخرى للموقف الفرنسي. فرنسا اقتنعت بسبب أزمة الغواصات وما تمثله من حمولة التاريخية كبلد ساهم في صناعة شعارات عالم ما بعد مرحلة الإقطاع في دول أوروبا بطموحها الوطني المتزايد مع رئاسة ماكرون وأنها لم تعد في حاجة إلى حماية العالم الجديد (أمريكا) من خطر الاتحاد السوفياتي السابق وما كان يشكله من تهديد لثاقفة الأوروبيين وإيديولوجية الرأسمال.
عندما يتعلق الأمر بمصالح اقتصادية كبرى للدول الإمبريالية لا توجد خطوط حمراء في السياسة الدولية هذا مؤكد لكن التغول الأمريكي ضد دول الاتحاد الأوروبي اقتصاديا لا يحتاج إلى أدلة أكثر مما يشهده العالم اليوم من تراجع في النفود الأمريكي على العالم بسبب الصين والهند وبعض دول أمريكا الجنوبية..
الصراع على الاقتصاد وتجاوز العجز في مديونية الدول سيكون السمة الطاغية على الصراع الدولي بين دول التحالف الغربي تحديدا لذلك كان لابد من حرب أوكرانيا لتأجيل هذا الصدام الحتمي بين "لصوص العالم الكبار" لهذا السبب وصف ماكرون قرار أمريكا بخفض الضرائب على الشركات المستثمرة في أوربا بالعدوان الأمريكي!!! لكن يبدو أن أمريكا نجحت مرحليا في إحباط هذه المحاولة اليائسة للتخلص من قبضتها وإقبارها في المهد وتغيير وجهة هذا الصراع نحو الشرق من خلال حرب روسيا على أوكرانيا. لذلك نلاحظ أن أمريكا رغم تيقنها من أن استمرار دعمها العسكري الاستراتيجي لأوكرانيا ضد روسيا قد يجر العالم إلى حرب نووية شاملة فإنها لم تتوقف عن هذا الدعم ولم تتوقف عن تحريض دول الاتحاد الأوروبي عليه وبالمقابل تحرص على أن يضل "الخط الأحمر" مع موسكو مشغل بدون انقطاع لتفادي أي مواجهة نووية محتملة. أمريكا تدرك جيدا أنها تخوض هذه الحرب بواسطة حلفاءها الأوروبيين ضد روسيا ليس دفاعا عن نظام عالمي يلفظ أنفاسه الأخيرة بل دفاعا عن وجودها من الأساس لذلك هي لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف قبل تحقيق نتائجها ضد حلفاءها بالدرجة الأولى وتدمير اقتصاداتهم وضمان ولائهم.
لكن لماذا لا تنتفض دول هذا الاتحاد ضد هذه الاستراتيجية الأمريكية التي قد تعصف باستقرار الدول الأوربية؟؟ ربما لأن الهدف الأساسي من حرب أوكرانيا هو استنزاف الدول الأوربية وروسيا معا (يعني ضربة معلم عصفورين بحجر واحد).
الدول الأوربية على دراية بهذا المخطط لكنها عاجزة عن التصرف لأن مواجهة أمريكا في حربها ضد روسيا والصين في هذه المرحلة سوف يعني أن الاقتصاد الأمريكي سيصبح عاجزا عن انقاد الدولار رغم دعم دول الخليج بتسويق النفط "البترو دولار" وهذا يعني كذلك أن الإقتصاد العالمي سوف ينهار وتنهار معه اقتصاديات هذه الدول دفعة واحدة. الفراغ العالمي سوف تملأه اقتصاديات دول أخرى شرقا وجنوبا.
أمريكا بلد راكم ما يكفي من التجارب العدوانية ضد شعوب الأرض للدفاع عن وجوده ضد المخاطر المحدقة التي تهدده من الداخل والخارج لذلك أمريكا بلد ناجح جدا في تصريف أزماته الداخلية وأزمة الرأسمالية العالمية التي بلغت مراحل متقدمة من العجز نحو دول أخرى حتى وإن كانت هذه الدول من حلفائها التقليديين. لذلك هذه الدول عاجزة اليوم عن التصدي لسياسة أمريكا ضد روسيا والصين لأن مصيرها مرتبط بمصير أمريكا. موقف الاتحاد الأوروبي هذا سوف تتفطن له شعوبه في الغالب بسبب أزمة الطاقة خلال هذا الشتاء وربما لهذا السبب استبق ماكرون هذه الأزمة الشعبية القادمة وقال "شعوبنا عليها دفع ثمن الحرية"!!! حرية من إذن؟؟؟ أكيد يقصد حرية الرأسمال الذي أصبح عاجزا عن الدفاع عن نفسه ضد أزماته المتتالية. المرحلة القادمة ستكون في حاجة إلى فدائيين من كل أنحاء العالم (أنظمة وشعوب) لبقاء الدولار الأمريكي لأطول مدة ممكنة تحث أجهزة التنفس الاصطناعي. لكن الشعب الأروربي يعلم التكلفة الباهظة لتواطؤ حكوماته المحلية ويعلم قبل ذلك بأن حريته ثمنها الدم والكشف عن الوجه الحقيقي لأنظمته المدافعة عن قيم الرأسمالية المتوحشة التي لم يعد من الممكن التراجع عن طبيعتها أو التستر على جرائمه .
أما تصريح جوزيف بوريل الممثل الأسمى للسياسة الأوربية خلال هذه الأزمة بأن أوروبا حديقة وسط الغابة (يقصد العالم العربي) هو محاولة يائسة لتصريف أزمة هذه الدول وتبرير عجزها عن التصدي للفخ الذي نصبته لها أمريكا بحرب أوكرانيا. تصريح هذا الإسباني الأبله هو بمثابة رقصة الديك الأخيرة قبل النحر لأن شتاء أوروبا سوف يكون باردا وقاسيا جدا هذا العام فما الذي يدفع قادته إلى توزيع التهم بخراب العالم إلى دول العالم الثالث!!! أكيد المقصود من ذلك هي دول الخليج في الأوبيك التي ساعدتها هذه الحرب المجنونة على التخلص من الضغوط الغربية الرهيبة والتحكم في مستويات إنتاج برامل النفط والحفاظ على التوازن المطلوب في السوق العالمي وتكديس ثروة ضخمة بفضل هذه الحرب لذلك أرذف يوريل بالقول بأن أهل الحديقة (يقصد الأوروبيين) عليهم الذهاب إلى "الغابة" كأن كلامه الوقح دعوة مفتوحة لدول الاتحاد الأوربي لاستعمار جديد مباشر (لدول الغابة) يحدث هذا ربما لأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي من خلال خطاب المسؤول الأول عن سياسته الخارجية ".
الشعوب الغربية لابد وأنها مدركة بشكل كبير للتغيرات "الجيو سياسية" العميقة في المنطقة بسبب هذه الحرب لذلك ورقة الحرية والديمقراطية كما العادة هي القشة التي لن تنجح هذه المرة في انقاد الاقتصاد الأوروبي من تداعيات حرب الروس ومن خلال الضغط الثقافي الذي تمارسه على دول الجنوب بسبب ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية.
هذه المرة معادلة الصراع مختلفة تماما فلأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي يجد الغرب نفسه في مواجهة مباشرة مع الدول العربية النفطية وهذا الوضع في تصاعد ويخشى أن يكون موقف المسؤول الأوربي مجرد محاولة للتوارى خلف نظرية صراع الحضارات التي بشر بها /صامويل هنتنتجون" وبداية تقسيم العالم إلى حضارة شرقية وأخرى غريبة. لا أحد يجهل البعد السياسي والفكري الخطير لهذا التقسيم. إن حقيقة الصعوبات التي لا حصر لها في تحقيق أنظمة ديمقراطية ووطنية مقارنة بما حققه الغرب في هذا المجال بناء على هذا التحليل المضلل يعد من الأخطار الثقافية المحدقة بهذه الشعوب. وفي هذه الحالة ستكون أوروبا فعلا قد تخلت عن مبادئها السامية التي أقامت عليها أنظمتها الديمقراطية وتنكرت الأفكار فلاسفتها العظام وسلمت نفسها لليبرالية المتوحشة الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية بدل من مواجهتها والتقليل من مخاطر نزوح العالم بشكل كلي نحو عالم يحكمه قطبين رئيسين واحد تتزعمه أمريكا وحلفائها الغربيين والآخر تشكله الصين وروسيا وباقي دول العالم "الغابة". في هذه الحالة المجنون وحده الذي يمكنه تصور مستقبل أفضل للبشرية خلال العقود القادمة!!! لم يكن العالم قريب من هذه الحرب الثقافية لأسباب اقتصادية واضحة أكثر من اليوم. لكن الصدامات والخلافات الكبرى بين دول العالم لن يكون نصيب "دول الغابة" منه شيئا في كل الأحوال. وحينها ستعيش البشرية المتبقية في حديقة بوريل مثل قرود الشامبانزي التي عاشت في حدائق أفريقيا قبل مليوني سنة.
إلى هذا الحد يستمر جرنا إلى القعر وكأن قدر ما يتحكم في مصير البشرية على نحو سافل. وحتى "نصائح" كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بعدم دفع روسيا إلى الحائط في حربها على أوكرانيا لم تأخذ على محمل الجد؟؟!! كيسنجر يعرف جيدا أن روسيا ليست هي الاتحاد السوفياتي سابقا. روسيا اليوم مثل أمريكا ومثل أي بلد غربي أخر يبحت عن مصالحه الوطنية. لكن خارج النظام الدولي الذي تحاول أمريكا وحلفاؤها فرضه على العالم. خطروة روسيا اليوم تتمثل بالضبط في أنها أصبحت طرف أساسي في صراع المصالح بين الدول الغربية لكن بمنطق الكرملين وليس بمنطق البيت الأبيض وهذا التصور الجديد للصراع الدولي هو خارج منطق التحالفات والخلافات الغريبة التقليدية والحالية فيما بينها بل هو على أرضية التناقض المطلق على المصالح الوطنية بين الغرب وروسيا.
أما العالم العربي سيكون على دوله الاشتغال بوثيرة أعلى لتحقيق النجاعة لمواجهة موجة المجاعة القادمة في العالم ككل ومواجهة الوضع الصعب القادم الذي ستعاني منه الشعوب العربية ولا أتحدث هنا عن الدول النفطية التي ستزداد غنى وعلى نحو فاحش بسبب ارتفاع اثمنة الطاقة وبسبب أن هذه الدول تتوقع هذا الثراء وتعتبره فرصتها التاريخية التي انتظرها طويلا وتحققت أسبابها اليوم لذلك هذه الدول النفطية سوف تنكفأ على نفسها بسبب هذه الثروة الهائلة ولن يحركها أي وازع قومي أو أخلاقي ولا حتى ديني لمساعدة باقي الدول العربية التي سوف تزداد شعوبها فقرا بل سوف تستغل هذا الثراء الفاحش في تجديد مشروعية حكم أنظمتها التيوقراطية مقارنة بغيرها في نظر شعوبها على أساس إقتصادي محض. سمعنا خلال الأيام القليلة الماضية أن النظام في الجزائر قد أعلن عن زيادة غير مسبوقة في الأجور تصل إلى نسب خرافية تقدر ب 50 في المئة. ولا أشك أننا سوف نسمع بقرارات ممثالة في الشهور القادمة من السنة الجديدة في باقي الدول النفطية يعني نوع من "الرشوة" الجماعية للشعوب لشراء صمتها على الأوضاع السياسية القائمة في بلدانها. لكن المحير والمخيف هو السؤال عن ثمن الزيادات في أثمنة المواد الأساسية في الدول غير النفطية وغلاء المعيشة وتدهور الأوضاع الاجتماعية بشكل غير مسبوق التي ستكون حكوماتها ملزمة باتخاذ قرارات سياسية سيادية حاسمة بإعادة توزيع الثروة الوطنية على قواعد عدالة اجتماعية حقيقية مثل فرض الضريبة على الثروة الطائلة للأغنياء ومحاربة التهرب الضريبي للأثرياء ومحاربة فساد الأثرياء ورجال السياسة الفاسدين وكل النافدين في الدولة ولا شك أن جميع الأقنعة سوف تسقط اذا لم تبادر هذه الدول الى اتخاذ هذه القرارات للتغلب على الظروف الصعبة الناتجة عن حرب أوكرانيا واسترجاع الأموال المنهوبة من الأبناء في الخارج لأن الحرب العالمية غير الباردة اليوم بين روسيا والحلف الاطلسي سوف تطول وربما لتنتهي إلى أحد احتمالين إما بنصر روسي واضح ينتهي بدوره إلى تشكل نظام دولي جديد متعدد الأقطاب تسيطر فيه الصين على الاقتصاد العالمي وإما بنشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والحلف الأطلسي قد يكون خيار استخدام السلاح النووي في نطاق محدود حاسما لإعادة بناء عالم جديد لا أحد يستطيع اليوم على الإطلاق معرفة طبيعته.
يبدو ان سنة 2023 لن تكون سهلة على شعوب الاتحاد الأوروبي والعالم العربي تحديدا من حيث الأمن القومي والاستقرار السياسي والاقتصادي.
لكن من الخطأ مجرد الظن بأن ما يحدث اليوم من صراع دولي على حكم العالم بين الكبار مؤشر على مستقبل مشرق ينتظر شعوب العالم العربي بل على العكس من ذلك سوف يساهم هذا الصراع في تعقيد طبيعة الصراع السياسي والفكري في هذه المجتمعات لأطول مدة ممكنة.
 
محمد علوش، مفوض قضائي بتطوان